عثمان تلاف – السودان
في زمن ليس كزمننا هذا، وفي مكان ليس كالأماكن التي نعرفها في عصرنا، كانت الحكاية!
في سرد مخلص للأصالة، يطوف بنا عثمان الشيخ في حكاياه عن ذاكرة منسية، وذكريات كادت أن تندثر، مضيفاً إليها سحراً فتبدوا وكأنها حكايات من عالم آخر.قراءتنا في مجموعة سرادق عزاء أزرق هي محاولة ربط هذه القصص المختلفة في لونها والمتنوعة في أساليبها والمتجددة في موضوعاتها؛ في خيط ناظم يبدوا أحياناً فنقبضه بالأيدي ويختفي حيناً خلف السطور.
ويبدوا لي أن الخيط الناظم في المجموعة أمران يكملان بعضهما، هما قص الحكايا ومقاومة النسيان وأزمنة الحداثة.
يوظف الكاتب قصصه بإحترافية تامة، غارقاً في دهاليز ذاكرته المليئة بالحكايا والقصص؛ ليخلد قريته في كون شاسع آفته النسيان، إنه يحول أحداثاً عادية إلى بطولات خارقة في وقت اللابطولات، وينبت من الأرض الجدبة ألف سنبلة.
الإبداع يبدأ عندما نُخلص لذواتنا وقصصنا الخاصة التي كونت وجداننا، إننا وبطريقة ما نشارك هذا العالم فهمنا لأنفسنا وفهمنا له بلغة سردية جذابة، تماماً كما خُلدت في ذاكرتنا مائة عام من العزلة.
في سرادق عزاء أزرق، يُضمن الكاتب الحكايا والتي هي إذا أردنا أن نفرقها عن القصة؛ فالأولى موروث شعبي -وليس نتاج مخيال فردي- تتوارثه الأجيال مشافهة كابراً عن كابر، والقصة اشتغال فردي وكلاهما يحويان مبادئ السرد.
المهم أن صديقنا عثمان الشيخ قص علينا الحكايات. فهو يستدعي مقولات شعبية مثل: ( الخميس خميسك لو تبيع قميصك) ويعالجها بطريقته الساخرة خالقاً حولها قصصاً لم ولن تحدث أبداً!
ومن ثم يحفر في ماضي المجتمع ليخرج لنا أحاديث الجن والسحر ونميمة النساء عند الصباح،و يضعنا أمام مشاهد حية عن اهتمامات القرية وفرحهم بشراء ( حذاء نمر جديد) وقضاءالأوقات في الحديث عنه والتفكير فيه والمباهاة به، والمقولة المغرفة في شعبيتها ( نموت ولا نحضن العمود) فيرسم لها بريشته الماهرة صورة يكتمل بها المعنى المتداول ويجعل لها رأساً ورجلاً، ويظل يغترف لنا من حكايات الماضي الجميل والاستمتاع بالبطء بحسب تعبير كونديرا فتجدنا نستمع أياماً طويلة إلى شريط كاسيت سجلت فيه رسالة صوتية من غائب لا يأتي؛ يبث أشواقه ويلقي بالتحيات على أهل القرية فرداً فرداً، يبدوا لي هنا أنّ القصص تنزع إلى مقاومة السرعة وأزمنة الحداثة على حد تعبير زجمونت باومن، فمن سرادق عزاء تستمر شهوراً الى منشورات حزينة في الفيسبوك، ونلحظ هنا موقف الكاتب الرافض لهذا النمط من السرادق الذي سيمحوه( ترند) فستان مغنية أو تصريح وزير، وتظل الأم تقاوم النسيان كما قاومه كاتبنا بسرده.
لمزيد من التوضيح لما ذهبنا إليه دعونا نشرح بعض القصص باحثين عن الخيط الناظم:
ففي قصته ” الجهة الثانية من التسجيل” يبتدأها بقوله: ” في زمان ليس كزمننا هذا” مشيراً أو قل مقتبساً اسلوب الجدات في سرد الحكايا المسائية ” كان يا مكان في قديم الزمان” إنها إحالة ذات مغزى إلى زمن البطء ومكان القرية.
ثم تتمركز القصة حول أقدم وألطف وسيلة تواصل في ذلك الزمان، وهو الشريط الكاست، الذي يحمل الشجن والأمل ويتلقاه الناس كعزاء لهم عن الغياب الطويل. وهو حدث إجتماعي له أثره على النفوس، وهنا إشارة إلى أن الفعل الجماعي في ذلك المجتمع هو الغالب، وليست الفردانية، الفرد ينتمي بقوة إلى ذلك المجتمع بكل تبايناته.
الجهة الأولى من التسجيل هو تحايا عامة للأهل والأصدقاء والجيران، يبشر فيها الغائب عن حاله ويرفع ذكر من يسلم عليهم كحدث جميل ونوع من الوفاء، مع مراعاة الأولوية والأعيان ومشاهير القرية.
الجهة الثانية هو حديث خاص للأهل والزوجة، يبث فيها الغائب شوقه، ويشكوا فيها حاله، نحن هنا أمام نمطين من المشاعر في الأولى يظهر الرجل ثباته ويبعث الطمأنينة إلى المجتمع ويسأل عن حالهم برباطة جأش منقطعة النظير، أما حينما يتحول الخطاب إلى الداخل الأسري فإن الرجل يظهر رقته ويبث شكواه. لثلاثة أيام أو تزيد يعيد الناس سماع التسجيل، فهو فعل يأخذ زمنه الطويل حتى يتشرب به السامع وينسرب فيه، ويحفظ كل كلمة عن ظهر قلب، ويستمتع بالتكرار الممل.
إذا قارنا هذه القصة بقصته المعنون ب”سرادق عزاء أرزق” وهو نص يتناول حدث العزاء ـ تعزية الموتى- في العصر الحديث، وبطريقته الساخرة جداً يشير إلى أن الحزن هنا عابر، منشورات حزينة هنا وهناك، لزوم الترند أو التايم لاين كما يقال ومن ثم مع أول حدث غرائبي يختفي الحزن تماماً، إذا فهو حزن سطحي، عابر، سريع. فنحن أمام نمطين من طريقة التفاعل مع المواضيع المجتمعية؛ نمط بطيئ جداً يستمر من ثلاثة أيام إلى شهور وربما سنوات، ونمط سريع جداً يستمر من ثانية إلى ثلاثة أيام فقط
لننظر في قصته “ألبرت اينشتاين في قريتنا” يشير إلى أن اهتمامات المجتمع ونظرتهم لأشياء صغيرة كشراء حذاء جديد هو فعل يأخذ أسابيع من التفكير والذهاب والأياب، وصانع الأحذية يصبح مركز الإهتمام، فيحاول أن يتقن عمله ليشار إليه في كل مرة، والنعيم ـ بطل القصة – أراد أن يعلوا قومه بهذا ” المركوب الأصلي” الذي لا يقل عندنا في الحاضر عن شراء سيارة آخر موديل، لكن الأمر عندهم حدث يغير نظرتهم له، وللصانع، ونظرته هو لنفسه وللاخر. بينما شراء سيارة اليوم حدث شبه عادي.
إذاً فقد كان في البدء الحكاية، ثم مع الزمن تحولت إلى القصة والرواية، ولكن مع أزمنة الحداثة تكاد تختفي الحكوات فيسترد عثمان الشيخ مجدها رغم أنف النسيان