دَّلالة المناسبة وحكم الوقت في الفهم الجديد للإسلام
ورقة مقدمة للندوة العلمية الدولية الموسومة بـ: المناسَبيّ في اللغة والأدب والحضارة، تنظيم قسم اللغة العربية، كلية الآداب والفنون والإنسانيات منوبة، جامعة منوبة، تونس، (16- 17- 18 أفريل/ أبريل 2025)
بقلم الدكتور عبد الله الفكي البشير
باحث سوداني
ملخص
لَّما كان المناسَبيّ في مقاصد ندوة: المناسَبيّ في اللغة والأدب والحضارة، مفهوماً متسعاً، ويُشير فيما يُشير إليه، كما جاء في ديباجة الندوة، إلى المناسبة مجالاً علمياً في علوم القرآن، مع اختلاف مفهومها بين المذاهب، “ففي أصول الحنفية أن المناسبة هي الملاءمة…”، ويجعل الشافعية “المناسبة أعم من الملاءمة”، ويشير المفهوم كذلك إلى نظرية المناسبة، التي “جوهر الأمر فيها أن المناسبة Relevance /Pertinence ومرادفها الصلة، مفهوم أساسي في عملية فهم الخطاب اللغوي وتفسيره”، فإن هذه الورقة تسعى إلى تسليط الضوء على دلالة المناسبة وحكم الوقت في الفهم الجديد للإسلام، الذي قدمه المفكر السوداني محمود محمد طه (1909- 1985). طرح طه مشروعه عام 1951 وأخذ يفصل فيه، ويدعو له، بأدوات المثقف الحداثي: المقال، والمحاضرة، والبيان، والكتاب، والمساجلة، وغيرها، فواجه الحكم بالردة عن الإسلام مرتين، الأولى في 18 نوفمبر 1968، والمرة الثانية عندما تم تنفيذ حكم الإعدام عليه في 18 يناير 1985. ثم ما لبثت المحكمة العليا/ الدائرة الدستورية في السودان، أن أعلنت في 18 نوفمبر 1986 بطلان الحُكم الصادر في حق طه وتلاميذه. ووصفت الحكم بأنه لم يكن سوى كيدٍ سياسيٍ، و”لا يعدو أن يكون ستاراً لاغتيال خصم سياسي، تحت مظلة صورية للإجراءات القضائية وتطبيق حكم القانون”. (البشير، عبدالله الفكي، 2020، ص 316- 317).
تمثّل المناسبة وحكم الوقت عنصرين مركزيين في الفهم الجديد للإسلام/ الرسالة الثانية من الإسلام، وكذلك الملاءمة والتواؤم، وقد جاءت جميعها بمفاهيم جديدة، ومختلفة عما طرحته المذاهب. ينطلق طه في مشروعه من أن الإسلام رسالتان، رسالة أولى تقوم على الآيات المدنية، وهي آيات الفروع. ورسالة ثانية تقوم على الآيات المكية، وهي آيات الأصول. وكانت الآيات المدنية ناسخة للآيات المكية، كما ظلت هي المحكمة، ذلك لأنها كانت مناسبة للقرن السابع بحكم الوقت وبقدر طاقة الناس، وهي آيات الوصاية، ومنها جاء التشريع الإسلامي الحاضر اليوم. ويرى طه بأنه وبحكم التطور الذي هو الأصل، وهو قانون الوجود، فإن آيات الأصول (الآيات المكية) التي هي آيات المسؤولية وآيات الإسماح وآيات الحرية وآيات السلام، هي المناسبة ليوم الناس هذا. ولهذا فهو يقول: “نحن الآن نحب أن تنبعث هذه الآيات التي كانت منسوخة في القرن السابع”، في معنى أنها أرجئت، وعلق العمل بها فيما يخص التشريع، بسبب أنها كانت أكبر من طاقة الناس، وكانت أكبر من حاجة الناس، فهي لم تكن مناسبة للوقت أوانئذ، ولكنها مناسبة للوقت اليوم. تقف الورقة هنا وتقدم شرحاً وتفصيلاً عن الرسالة الأولى والرسالة الثانية، وعن سمات خطاب القرآن المدني (آيات الفروع)، وسمات الخطاب المكي (آيات الأصول)، وضوابط التمييز بينهما، وفقاً لرؤية طه.
وعن النسخ، يقول طه: ويجيء القرآن، فيقول: ﴿مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسئِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا ۗ أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾[1]. ويشرح طه، قائلاً: ﴿مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ﴾ يعني: ما نلغي، ونرفع من حكم آية.. وقوله: ﴿أَوْ نُنسئِهَا﴾ يعني نؤجل من فعل حكمها.. و﴿نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا﴾ يعني أكثر منها مناسبة لوقت الناس، يعني أقرب لفهم الناس، وأدخل في حكم وقتهم من المنسأة. وقوله تعالى: ﴿أَوْ مِثْلِهَا﴾ يعني نعيدها، هي نفسها، إلى الحكم حين يحين وقتها. ويُبين طه، قائلاً: فكأن الآيات التي نسخت إنما نسخت، لأنها غير مناسبة لحكم الوقت، فهي مرجأة إلى أن يحين حينها ووقتها.. فإذا حان حينها فقد أصبحت هي صاحبة الوقت، ويكون لها الحكم، وتصبح، بذلك هي الآية المحكمة، وتصير الآية التي كانت محكمة، في القرن السابع، منسوخة الآن.. وهذا، كما يرى، هو معنى حكم الوقت.. للقرن السابع آيات الفروع، وللقرن العشرين والقرون التالية آيات الأصول. ومن هنا، كما يقول: تكون الحكمة وراء النسخ.. فليس النسخ، إذن، إلغاءً تاماً، وإنما هو إرجاء يتحين الحين، ويتوقت الوقت. “وهو الوقت الذي نعيش نحن اليوم في تباليج فجره الصادق.. وإنما من ههنا وظفنا أنفسنا للتبشير بالرسالة الثانية”. تقدم الورقة تبييناً عن النسخ، وعن مفهومي المناسبة وحكم الوقت في مشروع طه.
ويرى طه بأنه ببعث آيات الأصول، وهي المناسبة للوقت اليوم، لتكون هي صاحبة الحكم، وليقوم عليها التشريع الجديد، والذي يسميه “تطوير التشريع/ تطوير الشريعة الإسلامية”. ويكون تطوير الشريعة الإسلامية، عنده، من داخل القرآن، حيث يقوم على النص المناسب لوقت الناس، وهو نص كان مدخراً يومئذ إلى أن يحين حينه، وتجيء مناسبته للوقت. ويُبين طه من خلال قول الله تعالى: ﴿وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ﴾[2]، فيقول: القرآن كله حسن، ولكن بعضه أحسن من بعض، قوله تعالى: ﴿وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم﴾ أحسن يعني المناسبة للوقت. هنا تقدم الورقة بعض التفصيل، وتسعى للإجابة عن الأسئلة الآتية: ما هو مفهوم تطوير الشريعة؟ وأين يقع؟ وكيف يكون مناسباً للوقت؟ وكيف تتنزل منه الحلول المناسبة للوقت ولحاجة العصر ومطالب الإنسان المعاصر؟
كذلك ارتبطت مترادفات المناسبة، مثل الملاءمة والتواؤم، عند طه، بعلاقة الإسلام بالبيئة، ومعنى الإسلام نفسه. يقول طه: “إن الإسلام يعني التعريف بحقيقة البيئة، والمصالحة والتواؤم معها، وإنه لا يمكن لأي حي أن يحتفظ بحياته، دع عنك حريته وسعادته، إذا كان هو في نزاع مع البيئة، نتيجة لجهله بالبيئة”. تقف الورقة هنا وتقدم شرحاً وتبيناً موجزاً للتعريف بالبيئة وحقيقتها عند طه، وتقدم كذلك إجابات موجزة عن كيف السبيل للتواؤم مع البيئة؟ وكيف يمكننا تفادي اندثار الحياة أو ما يعرف بالإبادة البيئية Ecocide؟
الكلمات المفتاحية: المناسبة- حكم الوقت- الفهم الجديد للإسلام- الملاءمة- التواؤم- الآيات المكية- الآيات المدنية- تطوير التشريع- البيئة.
[1] القرآن الكريم، سورة البقرة، الآية (106).
[2] القرآن الكريم، سورة الزمر، الآية (55).