بورتسودان 30-06-2025: اعد التقرير دكتور عبدالله إدريس عبدالله (سونا)
المصدر : وكالة الانباء السود\انية ( سونا)
نسعد اليوم بٱن نلتقي بقامة من قامات السودان الشامخة، شموخ جبل التاكا، أصيلٌ فيها كأصالة حضارة مروي، ويتدفّق إنتاجه الأكاديمي كما تتدفّق مياه النيل في ربوع السودان، ومنظوره العلمي راسخٌ رسوخ جبل مرة.
إنه المؤرخ والقاصّ والمؤلف الدكتور البشير أحمد محي الدين، ابن مدينةٍ حملت همَّ التعليم والعلم في السودان قاطبة، إنها مدينة الدويم بولاية النيل الأبيض.
ضيفنا اليوم عضو اتحاد المؤرخين العرب في بغداد، وأمانة النسابين السودانيين، كما عمل عضوًا في اتحاد الكُتّاب السودانيين، ورابطة الكُتّاب والأدباء، ونادي القصة والسرد. وهو الآن عضو في “الموسوعة العربية أرابيكا” بدولة قطر، إلى جانب عضويته في عدد من الجمعيات والاتحادات الثقافية.
الدكتور بشير يتميّز بمنهجٍ مختلف في كتابة التاريخ؛ إذ يهتمّ بالمرويات الشعبية، ويستند إلى التحولات الاجتماعية والبيئية، وآثارها في الصراعات والاندماج.
ضيفنا من مواليد عام 1975م، درس المراحل التعليمية الثلاث (الابتدائي، المتوسط، الثانوي) في مدارس معهد التربية بخت الرضا بالدويم، ثم التحق بجامعة النيلين – كلية التجارة – قسم العلوم السياسية. ونال درجة الماجستير من كلية الدراسات العليا بذات الجامعة، ثم عمل صحفيًا في عدد من الصحف، والتحق بالخطوط البحرية، كما عمل محكِّمًا لمجلات علمية. ونال درجة الدكتوراة من الأكاديمية العليا للدراسات الاستراتيجية والأمنية في رسالةٍ بعنوان: “صراع الاستراتيجيات العظمى في الشرق الأوسط وأثرها على السودان.”
بعد هذه النبذة، نستهل حوارنا معه بالسؤال:
كثيرًا ما يُقال إن السودانيين يشكّلون مجتمعًا شفاهيًا تُحفظ ذاكرته في صدور الكبار. ما تقييمكم لهذا التصنيف؟
أولًا، لا أتفق مع هذا الزعم، وليس من الحكمة تعميمه. القول إن المجتمع السوداني شفاهي فقط قولٌ مجحف. فهناك توثيق جيّد، لكن الأزمة الأساسية تكمن في النشر؛ إذ إن له شروطًا، وقبوله وتكاليفه عالية، خاصةً في هذا الزمن.
قديمًا، كانت أولى محاولات الطباعة والتوثيق عبر “مطبعة الحجر” التي غنمتها الدولة المهدية من الحكم الخديوي (1820–1885م)، وعلى الفور طُبعت بها عدة كتب، منها: مجالس المهدي، سعادة المستهدي بسيرة الإمام المهدي، الطراز المنقوش ببشرى قتل يوحنا ملك الحبوش لإسماعيل عبد القادر الكردفاني، نصيحة العوام، راتب المهدي وغيرها. بينما أُحرقت مؤلفات أخرى تعود للفترة من الفونج إلى المهدية، وحُجبت نتيجة توجّه المهدية الإقصائي.
أما في عهد الحكم البريطاني المباشر (1898–1956م)، فقد قُيّدت عملية النشر، وجرى الاقتصار على الطباعة الدينية والصحف الإخبارية. ورغم ظهور المطابع، فإن النشر لم يتطوّر إلا بعد 1945م، عقب الحرب العالمية الثانية، حين أُتيح هامش حرية أكبر، فبدأت المطابع تطبع كتبًا فكرية وثقافية.
وبعد الاستقلال، بدأت الحركة الثقافية والفكرية تتعافى، وارتفعت نسبة القراءة، إلا أن كثيرًا من المؤلفات ظل محفوظًا في مخطوطات، مثل أغلب كتب محمد عبد الرحيم، وكتاب تاج الزمان في التاريخ والأنساب، وجغرافية السودان، ومؤلفات عبد القادر دورة، وصديق حضرة، وغيرهم.
الدولة للأسف لا تهتم بحركة النشر، لذا تظهر مؤلفات قليلة تعود غالبًا لأسماء معروفة، لأن دُور النشر تهتم بالجدوى المادية، وبالتالي يعتمد القارئ السوداني على الكتب المستوردة.
هل هناك تحديات تحول دون توثيق وكتابة تاريخ السودان؟
توثيق التاريخ وتحقيقه يقوم على ثلاثة أضلاع: المؤلف، والناشر، والقارئ. من جهة المؤلف، فالتحديات كثيرة، أهمها: عدم التفرغ، ضعف العائد المادي، صعوبة الحصول على المعلومات وتصنيفها، ثم صياغتها بلغة مفهومة ومشوقة. أما دور النشر، فمعظمها تجارية، وتكلفة الطباعة مرتفعة، ولا تنشر غالبًا إلا للأسماء المعروفة، مما يُجبر الكُتّاب الجدد على دفع مبالغ كبيرة، وهو ما يؤثر سلبًا في الإنتاج الفكري.
أما القرّاء، فهناك اهتمامٌ كبير منهم رغم الظروف الاقتصادية، بل تقديرٌ واضح للكتّاب، خاصة عبر وسائل التواصل الاجتماعي، التي أسهمت بدورها في توسيع النشر، وتبادل الآراء، وقياس ردود الأفعال.
هناك من يقول إن تاريخنا مزوَّر لأن أغلب من كتبوا عن السودان كانوا أجانب أصحاب مصلحة. ما رأيكم؟
هذا تعميم خاطئ. صحيح أن بعض المدارس التاريخية – البريطانية والمصرية – قدّمت تفسيرات مغلوطة لبعض الأحداث، ويمكن أن يُلاحظ ذلك القارئ المتمكّن، لكنه يربك القارئ العادي.
مثال على ذلك: معركة شيكان. يرى المؤرخون الإنجليز أن فشل الحملة سببه سوء إدارة الخديويين وغدر السودانيين، بينما يرى المصريون أن الإنجليز أرادوا تسليح المهدي للانفصال عن مصر ثم يعودون لاحتلال السودان منفردين.
بلا شك، كتب الأجانب – من رحالة، ومبشّرين، وتجار، وإداريين – كانت تحمل مصالح، وتناقضًا مع القيم والعادات والدين في السودان، ولذلك وصفوا بلادنا بالتخلف والغرابة والرجعية، وهذا يطبع معظم مؤلفاتهم.
ما دور المؤرخين في معالجة هذا التشويه؟
هناك مساهمات مقدّرة من المؤرخين السودانيين، لكن لم تُغطِ كل فترات تاريخنا، لذا ظهر مصطلح “المسكوت عنه”، و”الفجوة المعرفية”. ما زالت هناك فترات مجهولة بحاجة لبحث. والهموم اليومية، وقلة التمويل، وضعف الاهتمام الرسمي كلها تحديات تُعيق عمل المؤرخين.
ما أبرز مساهماتكم في معالجة التشوّهات التاريخية؟
نجحتُ في تصحيح عدد من المفاهيم الخاطئة، مثل: تعديل وصف “الحكم التركي المصري” إلى “الحكم الخديوي”، وهو الوصف الأدق لأن مصر كانت تحت الاحتلال البريطاني منذ 1882م، وبالتالي لم يكن للأتراك سلطان حقيقي على السودان حينها. وكذلك صحّحت مصطلح “الحكم الثنائي” إلى “الحكم البريطاني المباشر”، إذ إن النفوذ البريطاني كان مطلقًا، ولم يكن للمصريين سوى تمثيل شكلي.
أيضًا نشرتُ عددًا كبيرًا من الأوراق العلمية داخل وخارج السودان، خصوصًا تلك التي تتناول التحوّلات الجيوسياسية، والتأثيرات الثقافية على التاريخ، والدور الاجتماعي للمرويات الشعبية. وحرصتُ على أن أستند إلى الوثائق والمخطوطات المحلية، والمرويات المحفوظة في المجتمعات التقليدية، وربطها بالتغيرات البيئية والاجتماعية والسياسية التي شهدها السودان في فترات مختلفة.
ما تقييمكم لاهتمام الأجيال الجديدة بتاريخ السودان؟ وهل لديكم توصيات لتعزيز هذا الاهتمام؟
هناك اهتمام متزايد بين الشباب بتاريخ بلادهم، لكنه اهتمامٌ غير مؤسسي، أي أنه يأتي من المبادرات الفردية غالبًا، ولا يجد دعمًا من المناهج أو الدولة. البرامج التعليمية لا تولي التاريخ الوطني القدر الكافي من العناية، ويغلب عليها الطابع الحفظي الممل، دون ربطه بالواقع أو تقديمه بروحٍ مشوّقة. كما أن النماذج التاريخية الملهِمة غائبة عن المنصات الإعلامية والثقافية.
أوصي بأن يُدرَّس التاريخ بمنهج قصصي، ويُدمج مع الأدب والمسرح والدراما. نحتاج إلى أعمال وثائقية، ومتاحف تفاعلية، ومكتبات رقمية، تُعيد تقديم ماضينا بما يلائم أدوات العصر.
هل ثمة مشاريع تعملون عليها حاليًّا؟
نعم، أعمل حاليًا على إصدار موسوعة مصغّرة عن الشخصيات السودانية المؤثرة في القرنين التاسع عشر والعشرين، وتضم سِيَر علماء، ومفكرين، ومناضلين، وإداريين، كانت مساهماتهم حاسمة في بناء الهوية السودانية. كما أعمل على كتاب توثيقي يتناول تطوّر المرويات الشعبية في منطقة النيل الأبيض وربطها بالتحولات السياسية الكبرى، بالإضافة إلى مساهمتي المنتظمة في الموسوعة العربية “أرابيكا”.
كلمة أخيرة تودّ توجيهها للقراء، خصوصًا الشباب؟
أنصح الشباب ألا يكتفوا بالسرديات الرسمية أو الشعبية فقط، بل أن يبحثوا عن الحقيقة عبر المقارنة والتمحيص. التاريخ ليس مجرد أحداث قديمة، بل هو مفتاح المستقبل، ولا يمكن بناء وطنٍ بلا ذاكرةٍ حيّة. أقول لهم: اقرأوا تاريخكم لتعرفوا من أنتم، وشاركوا في كتابته حتى لا يكتبه لكم غيركم.
ختامًا
هكذا، وعلى مدى هذا الحوار الثري، بدا لنا الدكتور البشير أحمد محيي الدين ليس مجرد مؤرخ، بل صاحب مشروع فكري يسعى لإعادة قراءة التاريخ السوداني، وتقديمه بلغة علمية وروح وطنية. في زمنٍ يُهدّد فيه النسيان ذاكرة الشعوب، يبدو أن أمثال الدكتور البشير هم الحُرّاس الحقيقيون للذاكرة السودانية.