“التعثر الديمقراطي في السودان” للبروفيسور عطا الحسن البطحاني

يوليو 29, 20250

“التعثر الديمقراطي في السودان” للبروفيسور عطا الحسن البطحاني  

 

١. السياق التاريخي وأهداف التأليف

صدر الكتاب عام 2025 في مرحلة حرجة تلت ثورة ديسمبر 2018، بهدف تشخيص أسباب فشل التجارب الديمقراطية المتعاقبة في السودان منذ الاستقلال (1956) حتى الثورة. أهداه البطحاني إلى “الشفاتا والكنداكات والجيل الراكب رأس” رمزًا لدور الشباب والمرأة في التغيير، وركز على تحليل “العجز البنيوي” الذي منع تحوُّل الثورات الشعبية إلى أنظمة ديمقراطية راسخة .  

 

٢. الأطروحة المركزية: تشريح “دائرة الفشل

يُفنِّد الكتاب التفسيرات السطحية لفشل الديمقراطية، ويطرح أن جذور الأزمة تكمن في:  

عجز النخب السياسية: فشلت الأحزاب التقليدية (مثل الأمة والاتحادي) في ترجمة شعارات الثورات إلى مشروع وطني موحد، بسبب انشغالها بالصراعات الداخلية والمنافع الضيقة.  

الخلل المؤسسي: غياب “عقيدة دستورية” ملزمة، مما سمح بتجاوز الدساتير والاتفاقيات كلما تعارضت مع مصالح السلطة.  

تسييس الهوية: تحويل الانتماء العروبي-الإسلامي إلى أداة لإقصاء الآخر، خاصة في الأقاليم المهمشة (كدارفور وجنوب السودان) .  

 

٣. تحليل التجارب الديمقراطية الفاشلة 

يرصد الكتاب ثلاث تجارب رئيسية:  

  1. 1954–1958: أول حكم مدني بعد الاستقلال، انتهى بانقلاب عسكري بسبب:  

   – انقسام الأحزاب حول الهوية (عربية أم أفريقية).  

   – إهمال مطالب الجنوب، مما مهّد لاندلاع الحرب الأهلية.  

  1. 1965–1969: جاءت بعد ثورة أكتوبر 1964، لكنها سقطت بسبب:  

   – تشرذم اليسار (مثل الحزب الشيوعي) واليمين الإسلامي.  

   – فشل في إيقاف الحرب في الجنوب.  

  1. 1986–1989: الأكثر إثارة للجدل، حيث:  

   – سمحت “المصالحة الوطنية” (1977) للإسلاميين (الجبهة الإسلامية القومية) بالتسلل إلى مؤسسات الدولة.  

   – استغلت الجبهة الإسلامية الفساد وغياب الرؤية لدى الأحزاب التقليدية، لتصوير نفسها كبديل “منقذ” .  

 

٤. عوامل التعثر البنيوية 

يحدد البطحاني أربعة عوامل متداخلة:  

الاستثمار في النزاعات: توظيف النخب للنزاعات الإقليمية (مثل دارفور) لتعزيز نفوذها، بدلاً من حلها.  

الاقتصاد الطفيلي: اعتماد الحكومات على سياسات صندوق النقد الدولي، وتقوية تحالفات رأس المال غير المنتج (مثل سماسرة العقارات)، مما أفقد الدولة شرعيتها.  

التدخل العسكري: انقلابات الجيش (بدعم من أحزاب معارضة) كحل “سريع” للأزمات، مثل انقلاب 1989 الذي أنهى التجربة الثالثة .  

الاختراق الخارجي: سياسات “فرّق تَسُد” الاستعمارية، واستمرار تأثيرها عبر دعم قوى معينة (كالإسلاميين في الثمانينيات).  

 

٥. دور الإسلام السياسي في تقويض الديمقراطية  

يُخصِّص الكتاب تحليلاً لـ الجبهة الإسلامية القومية (بقيادة الترابي) كنموذج لتدمير الديمقراطية من الداخل:  

في فترة 1986–1989: رفضت الجبهة إلغاء قوانين سبتمبر (قوانين الشريعة)، وحوَّلتها إلى “تابو” مقدس، بينما شيطنت خصومها بوصفهم “تهديدًا للهوية العربية الإسلامية” .  

استخدمت الخطاب الديني لتبرير العنف، مثل تهديدها بـ”الجهاد” إذا أُلغيَت القوانين الإسلامية، واصطفت مع بقايا نظام نميري ضد حكومة الصادق المهدي .  

 

٦. رؤية للتغيير: ثورة ديسمبر 2018 كمفترق طرق

يرى البطحاني أن ثورة 2018 تمثل فرصة تاريخية لكسر “دائرة الفشل”، لكنها تحتاج إلى:  

مشروع وطني جديد: يقوم على “دولة المواطنة” لا الهويات الفرعية، ويضمن حقوق الأقاليم المهمشة.  

إصلاح الأحزاب: تحويلها من كيانات طائفية إلى منظمات قائمة على البرامج.  

دستور دائم: يُجرِّم الانقلابات العسكرية، ويُرسي آليات انتقال سلمي للسلطة .  

ويحذِّر من أن غياب هذه الشروط قد يُعيد إنتاج “الثقب الأسود” الذي ابتلع التجارب السابقة، في إشارة إلى تحول الثورات إلى ديكتاتوريات.  

٧. تقييم نقدي لإسهام الكتاب  

القوة التحليلية: يكشف كيف حوَّلت النخبُ الديمقراطيةَ إلى “ديكور” لحكم الأقلية، مستفيدةً من انشغال الجماهير بالصراع مع العسكر.  

التوقيت الاستراتيجي: صدر أثناء المفاوضات بين المجلس العسكري وقوى الحرية والتغيير (2025)، ليقدم تحذيرًا من تكرار أخطاء الفترات الانتقالية السابقة.  

القصور: رغم تشخيصه العميق، يغيب عن الكتاب تحليل دور الاقتصاد الريعي (مثل الذهب والنفط) في تعزيز الفساد، وإمكانية توظيفه لتمويل الديمقراطية .  

 

الخلاصة: رسالة إلى المستقبل 

يُعدّ الكتاب مرجعًا جريئًا لفهم “لعنة الديمقراطية” السودانية، مؤكدًا أن الخطر ليس في العسكر وحده، بل في البنية السياسية الموروثة التي تنتج الفشل. يظل أمل البطحاني معلقًا على “الشفاتا والكنداكات” – جيل الثورة – الذي قد يحطم الحلقة المفرغة إذا تجاوز شعارات التحرير إلى بناء مؤسسات تحمي التعددية. هذا الجيل هو من يملك مفاتيح الإجابة على سؤال الكتاب المركزي: هل ستنجو التجربة الديمقراطية القادمة من التعثر؟ .

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *