مقدمة عامة
يُمثل كتاب “الهيمنة المصرية على السودان: الصيحة الأخيرة قبل الابتلاع” للباحث والمفكر السوداني د. النور حمد، والصادر عن دار الموسوعة الصغيرة للطباعة والنشر ، مساهمة فكرية جريئة في تحليل العلاقات السودانية المصرية ضمن إطار نقدي تاريخي واقتصادي وسياسي. يُعد الكتاب محاولة لتفكيك علاقة الهيمنة التاريخية التي مارستها مصر على السودان، والتي يُرجح الكاتب أنها كانت عاملاً أساسياً في تعقيد الوضع الداخلي السوداني وتأجيج الصراعات والحروب الأهلية. يأتي هذا الإصدار في وقت حرج من تاريخ السودان، حيث تشهد البلاد حرباً أهلية مستعرة وتفتتاً في اللحمة الوطنية، مما يضفي على الموضوع أهمية إضافية .
الأطروحة المركزية للكتاب
يدفع الدكتور النور حمد بأطروحة مفادها أن الهيمنة المصرية على السودان لم تكن مجرد هيمنة سياسية أو اقتصادية تقليدية، بل كانت هيمنة شاملة طالت الثقافة والأيديولوجيا والبُنى الاجتماعية السودانية. يُجادل الكاتب بأن النخبة السياسية السودانية لعبت دوراً محورياً في تمكين هذه الهيمنة من خلال التبعية الثقافية والأدبية والاستنساخ غير النقدي للتجارب المصرية في شؤون الحياة والسياسة والإيديولوجيا. يُشير حمد إلى أن هذه الهيمنة تُمارس عبر آليات متعددة، منها الابتزاز السياسي والاقتصادي، والتدخل في الشؤون الداخلية، واستغلال التبعية التاريخية، مما يجعل السودان في حالة الاستقلال الاسمي وليس الاستقلال الحقيقي منذ عام 1956 .
التحليل التاريخي للهيمنة
يقدم الكتاب تحليلاً تاريخياً مفصلاً لجذور العلاقة بين مصر والسودان، حيث يتتبع مسار هذه العلاقة منذ فترة ما قبل الاستقلال مروراً بالحقب المختلفة التي تلت استقلال السودان. يُبرز الكاتب كيف شهدت هذه العلاقات تأرجحاً في الموازين وفي شكل الخطابات السياسية، متأثرة بالانقلابات العسكرية والتغيرات السياسية في كلا البلدين، مثل انقلاب 1958 وانقلاب نميري ثم انقلاب الإخوان المسلمين. يوضح الكاتب أن مصر ظلت تُعامل السودان كـعمق استراتيجي وحديقة خلفية، مستغلةً التداخلات التاريخية والثقافية لضمان استمرار نفوذها .
الأبعاد الاقتصادية والثقافية للهيمنة
– البعد الاقتصادي:
يكشف الدكتور النور حمد كيف أن التبعية الاقتصادية تشكل ركيزة أساسية للهيمنة المصرية. يُشير إلى أن مصر استخدمت أدوات اقتصادية متعددة لربط السودان بها، بما في ذلك السيطرة على الموارد والتجارة غير المتوازنة، مما يحول دون قيام اقتصاد سوداني مستقل وقوي.
– البعد الثقافي والأيديولوجي:
يحلل الكتبع التبعية الثقافية السودانية لمصر، حيث يرى أن النخبة السودانية ظلت حبيسة النموذج الثقافي المصري، فاستنسخت التجارب الأدبية والفكرية والسياسية دون نقد أو تكييف مع الواقع السوداني. أدى هذا إلى إضعاف الهوية الثقافية السودانية المستقلة وصعود نخبة مهيمنة عليها ثقافياً وفكرياً .
الهيمنة وأزمات السودان الداخلية
يربط الكتاب بشكل واضح بين استمرار الهيمنة المصرية والأزمات الداخلية في السودان، بما في ذلك الحروب الأهلية والصراعات السياسية وانفجار الحرب الحالية. يرى الكاتب أن مصر استفادت من تفتت اللحمة الوطنية السودانية والانقسامات السياسية لتعزيز نفوذها، بل ويشير إلى أن هناك أدلة على تدخل مصري في الشؤون الداخلية السودانية لدعم أطراف معينة على حساب أخرى، مما عمق الأزمة وزاد من تعقيدها .
النقد والجرأة الفكرية
يتميز الكتاب بالجرأة الفكرية والنهج النقدي الجذري، حيث لا يتردد الدكتور النور حمد في مساءلة العلاقة من أساسها، مُحمّلاً النخبة السياسية السودانية مسؤولية القبول بالهيمنة والإخفاق في بناء دولة مستقلة. كما ينتقد الخطاب السوداني التقليدي حول مصر، الذي ظل حبيساً ضمن أطر محدودة وغير قادر على مراجعة نقدية جذرية. هذه الجرأة تظهر في وقتٍ اختفت فيه مثل هذه الأصوات بسبب الحرب والقمع .
رؤية لعلاقة مستقبلية متوازنة
على الرغم من النقد الحاد، فإن الكتاب لا يدعو إلى العداء مع مصر، بل يطرح رؤية لعلاقة مستقبلية بين البلدين تقوم على أسس جديدة ومتوازنة. يدعو الدكتور النور حمد إلى إقامة علاقة تبادل تجاري وثقافي بين دولتين ذات سيادة، تحكمها المصالح المشتركة والمنفعة المتبادلة لشعبي البلدين، وليس الأطماع التاريخية أو نزعات الهيمنة. هذه الرؤية تستند إلى إيمان الكاتب بإمكانية بناء شراكة حقيقية تحترم فيها كل دولة سيادة الأخرى وتستفيد من التقاء المصالح .
الخاتمة: أهمية الكتاب وتأثيره
يُعتبر كتاب “الهيمنة المصرية على السودان: الصيحة الأخيرة قبل الابتلاع” مساهمة جوهرية في الحوار النقدي حول العلاقات السودانية المصرية وفي تشخيص أحد العوامل العميقة خلف الأزمات السودانية المتعددة. لا يقدم الكتاب فقط تحليلاً تاريخياً وسياسياً واقتصادياً دقيقاً، بل يضع أيضاً رؤية بديلة لعلاقة أكثر توازناً بين البلدين. في السياق الراهن الذي يشهد حرباً أهلية مدمرة في السودان وتدخلات إقليمية متزايدة، يظل هذا الكتاب نداءً استعجالياً لإعادة النظر في العلاقة مع مصر ولبناء سودان مستقل وقادر على تحديد مصيره. كما يشكل إضافة قيمة للمكتبة السودانية والعربية، حيث يثري النقاش ويزيل الأغشية العاطفية التي تحجب الرؤية الواضحة حول الصراع .