هذا الكتاب ليس سرداً لتاريخ الحروب في جنوب السودان، ولا مجرد إضافة إلى القائمة الطويلة من الدراسات التي تحصي الضحايا وتعيد رواية المشاهد المأساوية، إنما محاولة جادة لاختراق الحجب التي نصبتها النخب، والكشف عن دورها في تعميق الانقسام وتغذية نار العداء بين جماعات شعب واحد. فبين دفتيه نقرأ كيف تُحوَّل الإثنية من رابطة طبيعية إلى أداة سياسية، وكيف تصبح وسيلة للهيمنة أكثر من كونها تعبيراً عن هوية أو انتماء.
منذ اللحظة الأولى للاستقلال، تشكلت آمال واسعة في أن تتحول جمهورية جنوب السودان إلى فضاء جديد للمواطنة والتنمية والسلام. غير أن هذه الآمال ما لبثت أن اصطدمت بواقع سياسي صلب، واقعٌ تتحكم فيه قلة من النخب التي اختارت أن تُشيّد عروشها على رمال الخوف والتفرقة. كان بإمكان هذه النخب أن تقود شعبها نحو بناء دولة عادلة، لكنها آثرت أن تصرف أنظار الجماهير المقهورة عن قضايا التنمية والتعليم والصحة، لتغرقهم في بحر خطاب الكراهية والانقسام.
لا تكمن خطورة الخطابات الإثنية في قتل الأجساد فقط، بل تمتد إلى جرح الوعي ومصادرة الخيال. حين يُعاد تعريف التناقضات كصراعاً بين “نحن” و”هم”، يصبح التفكير في أسئلة العدالة والكرامة والحقوق ضرباً من الترف. وبدلاً من أن يسائل المواطن واقعه الاقتصادي والاجتماعي والثقافي، ينجرُّ وراء معركة وهمية ترسمها النخب بمهارة، معركة تُبقيه أسير الفقر والعوز والمساعدات الإنسانية، فيما تُبسط الطبقة الحاكمة قبضتها على السلطة والثروة. لا يكتفي هذا الكتاب برسم صورة بانورامية لهذه المعضلة فقط، بل يضعنا أمام لحظة مواجهة فكرية مع أسئلة موجعة: لماذا تعيد الدولة إنتاج التخلف بدل تجاوزه؟ وكيف يتحول من يفترض أن يكونوا بناة المستقبل، إلى سدّ يحول دون تحقق هذا الحلم؟ ولماذا يُترك الناس عالقين في متاهات العنف وتُهدر فرص النهضة والتنمية؟
لكن، على الرغم من قتامة الواقع، فإن الكاتب لا يكتفي بتوصيف مواضع الألم فقط، بل يدعو إلى تجاوز السرديات السطحية التي تختزل الحروب في جنوب السودان إلى مجرد نزاعات اثنية قديمة ويكشف أن ما يجري ليس قدراً محتوماً، بل صناعة سياسية لها مصالح واضحة مع إختلاف الوجوه، وبذلك يشرع الباب أمام إمكانية الحلم بمستقبل مختلف، مستقبل قوامه العدالة والمواطنة، لا الخوف والانقسام.
إنني أضع هذه الترجمة بين أيدي القرّاء لأهميته في فهم جمهورية جنوب السودان بصفة خاصة، وتجارب أخرى في منطقتنا الإفريقية. ففي كل مكان تُستغل الهويات الضيقة لصرف الأنظار عن فشل النخب في العمل على أجندة التنمية والعدالة، نجد صدى لهذه التجربة بأبعاد وأهوال مختلفة. هذا الكتاب لا يخاطب الجنوب السودانيين وحدهم، بل يحث وعينا الجمعي على البحث عن سبل التحرر من قبضة النخب وخطاباتها المضللة.
يدجوك اقويت
معهد أفريقيا – الشارقة