18 يناير: في الذكرى الأربعين لإعدام الأستاذ محمود محمد طه

يناير 18, 20250

18 يناير: في الذكرى الأربعين لإعدام الأستاذ محمود محمد طه

 

د. محمد محمود

 

تمرّ الذكرى الأربعون لإعدام الأستاذ محمد محمد طه في 18 يناير 1985 بتهمة الرِّدّة والسودان تعصف به كارثته الكبرى منذ الاستقلال المتمثلة في انتقال حربه الأهلية من الجنوب والغرب لعاصمته ووسطه ويعيش أسوأ كارثة إنسانية في تاريخه والكارثة الإنسانية الكبرى في العالم اليوم.  

تمّ الشنق العلني للأستاذ محمود والبلاد تمرّ بأخطر حالة هوس ديني بعد إعلان قوانين سبتمبر 1983 التي فرضت أحكام الحدود بكل ما تتّسم به من قسوة وحطّ للكرامة الإنسانية ليشهد السودانيون لأول مرة في تاريخهم بعد الاستقلال الأطرافَ وهي تُبْتَر والمواطنين وهم يُهانون بضربهم علنا. إلا أن ما حدث في صبيحة تلك الجمعة الحزينة التي أُعدم فيها الأستاذ محمود كان له مغزاه الخاص والكبير الذي يربطه بالحاضر خيطٌ قوي. 

إن حكم الرِّدّة على الأستاذ محمود في يناير 1985 لم يكن غريبا أو مفاجئا لأنه كان إحياء ومصادقة على حكم الرِّدّة الذي أصدرته محكمة سابقة في نوفمبر 1968. ورغم أن طه كان مؤيدا لنظام العقيد جعفر نميري إلا أن النميري رأى حينها أنه أنسب كبش فداء يقدّمه لتعزيز تحالفه مع الإسلاميين في حركة الإخوان المسلمين ووسط الطرق الصوفية وتعزيز الوجه الجديد لقهر النظام: وجه الشريعة.  

وعندما قرر الأستاذ محمود معارضة قوانين الشريعة التي أعلنها النظام في سبتمبر 1983 كان يعلم بأن هذه المواجهة ربما تكلّفه حياته، إلا أنه ما كان من الممكن أن يصمت وهو الذي نذر حياته لمشروع “الرسالة الثانية من الإسلام”. وموقف الأستاذ محمود الأخير أعلن عنه منشور “هذا أو الطوفان” الذي صدر باسم “الإخوان الجمهوريون” يوم 25 ديسمبر 1984. دعنا نقف عند هذا المنشور ونرى ما يمكن أن يعنيه للسودانيين اليوم بعد أربعين عاما. 

إن النقطتين المركزيتين في المنشور تتعلقان بالموقف من قوانين سبتمبر وبالوضع في الجنوب الذي كان غارقا في الحرب الأهلية الثانية. يقول المنشور فيما يتعلق بقوانين سبتمبر إنها: “شوهت الإسلام في نظر الأذكياء من شعبنا، وفي نظر العالم، وأساءت إلى سمعة البلاد. فهذه القوانين مخالفة للشريعة، ومخالفة للدين، ومن ذلك أنها أباحت قطع يد السارق من المال العام، مع أنه في الشريعة يُعزّر ولا يُحَدّ لقيام شبهة مشاركته في هذا المال. بل إن هذه القوانين الجائرة أضافت إلى الحد عقوبة السجن، وعقوبة الغرامة، مما يخالف حكمة هذه الشريعة ونصوصها. هذه القوانين قد أذلت هذا الشعب، وأهانته، فلم يجد على يديها سوى السيف، والسوط، وهو شعب حقيق بكل صور الإكرام، والإعزاز. ثم إن تشاريع الحدود والقصاص لا تقوم إلا على أرضية من التربية الفردية ومن العدالة الاجتماعية، وهي أرضية غير محققة اليوم.” وفيما يتعلّق بالجنوب يقول المنشور: “إن هذه القوانين قد هددت وحدة البلاد ، وقسمت هذا الشعب في الشمال والجنوب و ذلك بما أثارته من حساسية دينية كانت من العوامل الأساسية التي أدت إلى تفاقم مشكلة الجنوب. إن من خطل الرأي أن يزعم أحد أن المسيحي لا يضار بتطبيق الشريعة، ذلك بأن المسلم في هذه الشريعة وصي على غير المسلم، بموجب آية السيف، وآية الجزية، فحقوقهما غير متساوية. أما المواطن، اليوم، فلا يكفي أن تكون له حرية العبادة وحدها، وإنما من حقه أن يتمتع بسائر حقوق المواطنة، وعلي قدم المساواة، مع كافة المواطنين الآخرين. إن للمواطنين في الجنوب حقا في بلادهم لا تكفله لهم الشريعة، وإنما يكفله لهم الإسلام في مستوى أصول القرآن ( السنة ).” وعلى ضوء ذلك الوضع يطالب المنشور بمطلبين: بإلغاء قوانين سبتمبر وبحقن الدماء في الجنوب واللجوء إلى الحل السياسي والسلمي بدلا من الحل العسكري.  

ولابد من تأكيد ملاحظتين أساسيتين عن المنشور ونحن نقرأه على ضوء تجربة أربعين عاما انتهت بالواقع المأساوي الذي نعيشه. الملاحظة الأولى أن المنشور يخلو من أهم مطلب يعكس الطموح الحقيقي للسودانيين والمطلب الأساسي الذي يحفظ حقوقهم وكرامتهم وهو عودة العسكريين لثكناتهم واستعادة الديمقراطية التي انقلب عليها نظام مايو. والملاحظة الثانية أن المنشور يقدم مطلبيه في إطار قبوله بشرعية النظام. وقبول الجمهوريين بنظام مايو وتأييدهم له كان في واقع الأمر انقلابا مؤسفا على شعارهم “الحرية لنا ولسوانا” الذي رفعوه في الخمسينيات. كان عداء الجمهوريين للطائفية التي هيمنت بحزبيها الكبيرين على السياسة في فترات الديمقراطية التمثيلية أكبر من إيمانهم بالديمقراطية وانحيازهم لها، مما جعلهم لا يقدّرون حتى أطروحتهم عن “حق الخطأ” ولا يقدّرون فعالية الديمقراطية على المدى البعيد بوصفها قوة تحرير السودانيين الكبرى من ربقة الطائفية، لأن الولاء الطائفي في نهاية الأمر هو حالة وعي لا يتم التحرّر منها عبر أدوات القهر وإنما بالعمل الدؤوب والصبور لتوطين وعي استناري.    

إن فترة الأربعين عاما التي تفصلنا عن منصة إعدام الأستاذ محمود والتي يمثّل الحكم العسكري الإسلامي لانقلاب العميد عمر البشير جلّها بسنواته الثلاثين (وبواقع استمرار هيمنته بعد انقلاب 25 أكتوبر 2021) قد أثبتت للسودانيين أن مشروع الدولة الدينية كان ويظلّ أكبر كارثة حلّت بالسودان منذ الاستقلال وأن الإسلام كـ “مشروع دولة دينية” لا يقدّم حلولا حقيقية لمشاكلهم وللتحديات التي تواجههم في عالم اليوم. وإفلاس المشروع الإسلامي لخّصته المادة 126 أو مادة الرِّدّة بوصفها التجسيد الأعلى لقهر حرية الفكر والتعبير والتي كان إلغاؤها واحدا من أهم إنجازات حكومة الفترة الانتقالية التي قطع عليها الإسلاميون الطريق ليدفعوا بالبلاد لجحيمها الحالي. 

أن الدرس الكبير الذي تعلّمه الشعب السوداني على مدى الأربعين عاما الماضية استقطرته جماهير ثورة ديسمبر 2018 المجيدة في شعاراتها الثلاثة: “حرية، سلام، وعدالة”. أدركت هذه الجماهير أن الحرية، والتي تعني في المقام الأول حرية الفكر والتعبير، هي حجر الزاوية الذي يستند عليه البناء الكبير للديمقراطية التي ظلّوا يناضلون من أجل تحقيقها عبر كل ثوراتهم. والديمقراطية بدورها لها حجر زاوية لا يقوم عمادها بدونه وهو العلمانية، أي فصل الدين عن الدولة. وبدون هذا الفصل بين الدين والدولة، ليصبح الدين أمر اعتقاد شخصي حرّ، فإن حرية الفكر والضمير والاعتقاد لن تتحقّق، والعدالة لن تتحقّق لأن التمييز ضد غير المسلمين وضد المرأة سيكون قائما. وأهمية هذا الفصل تنسحب للعقوبات الجنائية إذ أن المطلوب هو انسجام عقوباتنا مع مبادىء اتفاقية الأمم المتحدة التي وقّع عليها السودان لمناهضة التعذيب وغيره من ضروب المعاملة القاسية أو اللإنسانية أو المهينة. 

إن ما نراه ونلمسه عندما نقف الآن أمام مشهد إعدام الأستاذ محمود على ضوء ما عانيناه على مدي الأربعين عاما الماضية هو إفلاس وسقوط مشروع الدولة الدينية بمختلف أطروحاتها. وما نراه ونلمسه يفرض علينا الارتفاع لتحدي إعادة بناء وطن يتمتع كل مواطن ومواطنة فيه بالحرية والعدل والمساواة ويعيش سلامه وسلامها الداخلي والخارجي بعيدا عن أي شكل من أشكال القهر أو الخوف.

 

محمد محمود أستاذ سابق في كلية الآداب بجامعة الخرطوم وكلية الآداب والعلوم بجامعة تفتز الأمريكية

 

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *