عماد البليك
في العشرين من ديسمبر عام 2004 صعدت روح المفكر السوداني محمد أبو القاسم حاج حمد إلى بارئها في الخرطوم بعد علة ألمت به، وليس مدركا إن كان التدخين هو السبب أم لا، لأن حاج حمد كان مدخنا لا يرى حياته بسوى ذلك، وأتذكر أنه في منتصف التسعينات قدم محاضرة بقاعة الشارقة، جامعة الخرطوم، وأشعل سيجارته داخل القاعة في المنضدة الرئيسية، والمشهد نفسه رأيت الطيب صالح يفعله في معرض الكتاب بالدوحة وهو يحاضر عن أبي العلاء المعري دون أن يعبأ بالحضور.
كان حاج حمد بمقاييس فلسفة جيله “لامنتميا” وفق الصياغة التي ابتكرها كولن ولسون، لكنه كان جسورا في تحويل فعل اللاانتماء إلى خلاقية وإبداع ثر وانتماء من خلال فعل التفكير والكتابة والإنتاج الكثيف الذي يظل يلازم مشروعه الإبداعي والفكري، والذي يصعب تحديد ملامحه أو لمّه في محور واحد بالطرق النمطية في اللملمة والتعريف للكاتب أو المؤلف، فحاج حمد كان مبدعا متنوعا، من حيث ذهنية التفكير لا من حيث الأنماط الإبداعية، لأن إنتاجه انحصر في مشروعات تتقاطع مع التاريخ والسياسة والدين والحضارة الإنسانية عموما.
فهو مشروع فكري بامتياز يفكر في الإنسان وفي الوجود والكينونات ويرغب في فهم ماهية هذه الذات الغامضة وهذا النسيج الغريب الذي وجد على هذا الكوكب ذات يوم. ولم يكن أبو القاسم حاج حمد كائنا “رعويا”، يفكر في الفكرة لأجلها كمتعة بل كانت له سياقاته المنهجية ونزاعاته الذاتية وراء الأفكار، كان براغماتيا فكريا إلى حد كبير، لكن ذلك لا يعني أن حاج حمد كان إنسانا نفعيا بالمعنى المباشر. فمفهوم المنفعة عنده يتضاءل في اللحظة التي نفهم فيها أن الرجل قاس على نفسه في الكثير من صنوف الحياة، وهو ليس الزهد بالمفهوم الصوفي، فهو لم يكن صوفيا ولم يكن يحب التصوف، فقد كان يحب الحياة لكنها الحياة التي تروح في المسافة الفاصلة بين أن تكون مؤمنا وملحدا، عارفا وجاهلا برغبتك في المزيد من المعرفة والوعي.
لهذا كان يرى أن جزءا كبيرا من مشكل الواقع السوداني وأزمته يتمثل في هذه القوقعة الشريرة التي هي العقل، فـ “مأزق” السودان هو مأزق عقلي، كما هو مأزق الإنسانية عموما ساعة يكون الحديث عن الأمام والوراء. التقدم والرجعية. الحداثة والماضي المثقل بالانزعاجات التي تريد أن تقتحم الحاضر وتهشم كل جنونه ورغباته في الحضور.
لقد تعرفت على محمد أبو القاسم حاج حمد شخصيا منذ منتصف التسعينات مع زملاء من رفاق الحياة، وكنا في أولى عتبات الوعي، مندهشين للمنهج التفكيري الذي يفكك جدلية السودان ومأزقه الوجودي، وكيف لهذا الشعب “العظيم” أن يخرج عن قوقعة الإنقاذ ومردتها.
كان أبو القاسم قد جاء بمشروع تغييري بظن أن هذا النظام يمكن الاقتراب منه وتفكيكه بطريقة دريدا وبارت وإعادة إنتاجه في سياق مجتمعي جارف يكون له أن يحول الفعل الاجتماعي إلى عقل قوي واثق من قدراته، يزيح “السياسي” لصالح الفكرة، لكن ذلك الأمل سرعان ما وئد. لن أقول انهزم. لأن حاج حمد لم يكن من الناس الذين يؤمنون بفقه الهزائم في صيرورة حياتهم.
لهذا فإن “حسم” أو الحركة السودانية المركزية التي أنشأها كبديل لتشكيل واقع سوداني جديد يقوم على الشباب ويراهن عليهم، سرعان ما أعلن حلها مع مطلع الألفية وهي لم تكمل عاما تقريبا. وهذا يعني ببساطة أن الفكرة التي تقوم على جدل الحركية والتغيير اصطدمت ورغم اقبال الكثير من الشباب عليها
بفعل الجمود والراكن في الواقع السوداني، فالوقت لم يحن بعد لفعل التثوير في نظر حاج حمد كما أن النظام ما زال خارج نظم الألفة ما يجعل أي محاولة للتفكير من داخل الصندوق غير ممكنة، وقد كان بالفعل، وقت مبكر تكشفت فيه الكثير من الأباطيل التي كان يراها مفكرنا على أنها حتميات تاريخية من شأن الإنسان أن يجادلها ولكن ليس من بمقدروه ولو لحين أن يصارعها.
قلت إن الرجل لا يؤمن بالانهزامية لكنه يموضع الحدث في الظرف و”القدريات التاريخية” وأبعد من ذلك فكر الحاكمية الذي يقوم على الأدلجة، فالعقل السوداني عقل مؤدلج ومصبوب في قوالب جامدة، على المستويات السياسية والفكرية، هو نمطي ومؤسطر وغير قادر على التغيير، لأنه يفتقد لتلك الإرادة، وهو عقل يقوم على التقديس والقداسة وتحويل أتفه الأشياء إلى خرافات مقدسة، ومن هنا كانت الأزمات تتوالى ويتجذر تابو الخوف وكراهية الآخر والمزمن الاقتصادي في توسع المجاعات والحروب والنزوع الغريب إلى تشويه الذوات وتحويلها إلى آلات في ماكينات السلطة والتسلط.
يمثل حاج حمد ببساطة واختزال هزيمة المثقف النوعي “المزيف” والأفرنجي.. هزيمة المؤسسة ويمثل الرجل لو كنا نتوقف ونتأمل؛ مرحلة التشكيل الحقيقي للمثقف النوعي، الفيلسوف، بمعنى أن يكون الفكر قائما على ناظم متحد ومركز تأسيسي، ومتحرك في الوقت نفسه في إطار القضايا والتنويعات والأشكال، فعنده لم يكن ثمة فرق بين مراجعة في سورة قرانية أو قضية سياسية أو حدث ظرفي تاريخي يعمل على التبصير به ومآلاته.
هنا سيقع المراقب لتجربة حاج حمد في إشكال حقيقي. وهو قد يكون مهما من ناحية الإجابة عليه في توضيح صورة أكثر دقة لماهية المثقف الذي شكله الرجل ويمكن الاعتماد عليه في توطين فعل الثقافة بشكل جديد. وهذا الإشكال يتعلق بممارسة الفكر وغايته، هل الفكر رسالي أم غائي لذاته. وهنا سوف نجد أن أستاذنا مزج بين العالمين عالم النفعية كما قلنا وعالم المتعة البحتة والبحث عن ذائقة جديدة وجمالية لكثير من المفكرات والمنتجات والظرفيات.
ففي كتاب ضخم من مجلدين كـ “السودان.. المأزق التاريخي وآفاق المستقبل” لسنا أمام كتاب تاريخي ولا مساءلات ناقدة حول هوية السودان ومستقبله، بل هو نقلة نوعية وفي اتجاه الجدل الواعي بابتكار السودان المرتجى، وهو ما لم يتحقق إلى اليوم.
لكن الأثر الذي حققه حاج حمد هو أنه ركّب العديد من الاشتغالات الذهنية والفلسفية في تأمل مآل هذا البلد من خلال مفاهيمية عميقة ونظرة إلى التاريخ على أنه جدليات ومتغيرات، فليس ثمة شيء جامد أو حقيقي اسمه التاريخ أو الحدث. لأن ما نفهمه في الراهن أو اللحظة بخصوص حدث معين، لن يكون ضروريا بعدها. فالعقل الإنساني متغير ووثاب باتجاه النقد والبحث عن الجديد.
هذه هي المتلازمة التي اشتغل بها مفكرنا/ فيلسوفنا في هزيمة الثقافة الكلاسيكية في وعي التاريخ في مدرسة المؤرخ أو ناقد التاريخ التقليدي، كما عند أبو سليم أو شبيكة أو شقير أو يوسف فضل، أو غيرهم. لكن من المعروف أن أبو القاسم حاج حمد مورس ضده تهميشا متعمدا من قبل المؤسسة الأكاديمية الرسمية، حيث عملت “الغردونية” على اغتياله ونفيه لسبب بسيط أنه جاء من خارج نتاجها، وهو فعل سياسي بامتياز مارسه المتسلط الأكاديمي بتغرير وظنون أن التاريخ يمكن الهيمنة عليه.
بمثلما ينظرون إلى التاريخ كمقدس، وأنه نتاج كلي للوعي الأكاديمي ومدارس التغريب، فإن أبا القاسم كان يفضح ذلك بالعكس تماما بأن ثمة منهج يمكن أن يولد ويكبر ويتناسخ خارج الأطر التقليدية للمؤسسية “العارفة”.