علي السباعي*
عَرَضَتْ قناةُ ” العربية ُ ” تقريرا ً مُصوَّرا ً عَنْ مراسيمَ عُرْس ٍ غَريب ٍمن نَوعهِ جرى في الهندِ: ( حيث جَرَتْ مراسيمُ زفافِ عروسَين – ثور ٍ وبقرةٍ – لا تستغربوا ! وقد أرتَدَتْ البقرة ُ العروسُ بدلة َالزفافِ البيضاءِ الجميلة، وارتدى الثورُ العَريسُ بدلة َ العُرس ِ السَوداءَ البهيّة َ، وتمنّى الناسُ الحاضرون للعروسَين – البقرةِ والثورِ- وهم يضعون أكاليلَ الغارِ والياسمين ِ عليهما الرفاءَ والمزيدَ من العجول ).
لحظات عَرْض حفلة الزفاف كانَتْ تدورُ رُحـــى معارك في عمومِ مدن ِ العراق ِ بين أبناءِ الشعبِ الواحِدِ ، وكان صوتُ الرصاص ِ يعلو دائما ً على هُتافِ الصِبْيَةِ الذين يجوبونَ شوارعَ الوطن ِ هاتفين :- إمَّا النصرُ أو الموتُ !
ولم يعلموا أنَّ كلا الأمرَين ( النصرِ أو الموتِ ) انتحارٌ . يا ألهي ! متى تنتهي فصولُ مسرحيةِ تراجيديا الدمِ العراقيّ ؟
لقد أَنْفَـقــْنا عُمرَنا كُلَّه نَهْتِفُ مُــــذْ كُنـّا بعدُ صِبْيَة ً صغارا إلى الآن : إما النصرُ أو الموت !!!
ذكرني هتاف الصبية يوم كنت أعيش في حواري وأزقة مدينتي الجنوبية الفقيرة الصغيرة العراقية العريقة شرق أور تدعى الناصرية، كانت الحرب العراقية – الكردية الثانية عام ألف وتسعمائة وخمس وسبعين في أوجها، كان عمري حينها خمس سنوات، وآباءنا وأخوالنا، أبناء الشعب العراقي الواحد يقاتل بعضهم بعضا، كان المطلوب منا نحن أبناء الوطن الواحد أن نلتزم الصمت إزاء كل ما يحدث من حولنا، وأن نسير جنب الحائط الآيل للسقوط، كنت أيامها ألعب مع أقراني الصبية المرتدين” البجاما البازة والدشداشة الكودري ” لعبة الجنود، ((31) وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ ۖ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ ۗ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (32) )، لم أكن أعرف بأنها ستكون لعبة حقيقية في يوم ما من حياتنا ستقودنا أقدارنا إلى مواسم التوحش العراقية، مواسم القيظ العراقي في صحارى الحروب والقتل والقصف والموت والأسر وقطع الأذن، عَنَّ بفكري قول الكاتب النمساوي كارل كراوس: ( عندما تنخفض شمس الثقافة عند مستوى الأفق، تصبح للأقزام- ظلال كبيرة! ). كانت حياتنا في الحرب حياة دامية ملؤها الألم والمآسي والفقدانات الكثيرة والخذلانات الكبيرة والذكريات المرة، ملاعين مشعلوا الحروب جعلونا ندور مثل الناعور. جعلونا الملاعين ندور مثل حمار الناعور معصوب العينين حول محورها، محور الحرب، كنت أسمع عنها، صرت أسمعها، أسمع الحرب، أسمع أصواتها، أصوات أصابات جرحاها، أصوات سقوط قتلاها، أصوات بكاء الأبناء، أصوات عويل النساء، أصوات هرس عظام الجنود، أصوات قصف مدافعها، أصوات هدير دباباتها الروسية الصنع، أصوات صرير سرفات مدرعاتها، وأصوات زمجرة آلياتها ذات الصنع الألماني الشرقي، أصبحت أعرفها ولا أعرفها، أعرفها عندما اشتدت علينا نيرانها، وتكررت حزيراناتنا، واستفحلت مزدهرةً هباءاتها، بلغت العشر سنوات من عمري، اندلعت الحرب العراقية الإيرانية، وقعت مآسيها المريرة في بلدي، وجدت نفسي أرزح في فضاءاتها أحمل هموم جيل اكتوى بنيرانها، أثناءها حاولت أن أمتلك اللغة، لغة حية، ولغتي العربية هي اللغة الحية في قصصي جعلتني أحس أنني أمقت الحرب، وأكره مروجيها، وأتعذب لخنوعي لقدرها علينا، وألعنها وأنا أعيش معاناتنا فيها، ما عشته وعايشته داخل أتونها المستعر بأعمارنا حوّلت حياتنا إلى قصص والقصص إلى أحلام، والكتابة القصصية الواعية خلقت لي حياة موازية لجأت إليها لمواجهة قساوة زمننا المغبر، فتحت عيني بدهشة طفل لأنني بهما سأكون كلماتها ومدادها وسطورها، وسأحرث أرض الورقة البيضاء بمساءات الكتابة القصصية، والكتابة القصصية جعلتني طبيعياً، وأبعدتني عن الجنون، والقبح، وعلمتني معنى الحياة، ومعنى الأدب، ومعنى عظمة الخيبة، وجعلت من اللحظة العابرة مشهداً مؤثراً، قصصاً مؤثرة، مددت بها جسوراً تعبر بها الناس إلى ضفاف آمنة، حدثت نفسي أحثها على الكتابة: ( الإنسان كلمة إن قلتها تمت وان لم تقلها تمت قلها ومت )، كتبت قصصهم لأخرجهم من راهنهم المقض للمضاجع إلى نور بياض شمس ورقة الكتابة، والسطور الحاملة لقصصهم إلى احلام، والأحلام إلى تغيير حياتهم، قرأت لألبير كامو كيف يغير الأدب حال الناس: ( نحن جميعاً نحمل في دواخلنا منافينا وجرائمنا وانتقاماتنا. لكن! واجبنا لا إلقاؤها على لعالم بل أن نقاتلها في أنفسنا ونفوس الآخرين ). نعم هذه مهمة الأدب في عالم موزع بين أما النصر أو الموت وبين حربين وحصار وبين أما الموت أو النصر، يقول جلّ ثناؤه: ((114) أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ (115) )، رحت أردد ما كتبه كامي لورانس: ( بماذا يفيد الأدب إن لم يعلمنا كيف نحب؟ )، وأرسم لنفسي طريقاً ما أكدت عليه إدنا فربر: ( وحدهم الهواة يقولون إنهم يكتبون من أجل السعادة. . فليست الكتابة عملاً مسلياً. . إنها خليط من حفر الخنادق وتسلق الجبال ومخاض الولادة ). قد تكون الكتابة شيئاً شيقاً مهماً، مبهجاً، مرهقاً، مفرحاً، مروحاً عن النفس، أما مسلياً فأبداً. سألت نفسي بعد مشوار عمري في الأدب هل أنا على صواب أم على خطًأ ؟ أنا أتعذب. لكن! بصمت أحترق، وصرت أذوي لفرط حزني على الآخرين وحزني على نفسي، سؤال لطالما حيّر العظماء والمبدعين وحيّرتي، أشعل صدورهم ناراً كنيراني، كيف يكون المثقف مشروع حياة ؟ لا أجد جواباً غير أني أدوّن ما أراه بمشاهدة ألوان فائق حسن وأحسه عندما تتلمس عيناي منحوتات جواد سليم وأسمعه بصوت أم كلثوم وأسافر معه في قصائده نزار قباني. جميعهم كانوا يسألونني: هل نحن على صواب؟ وأنا مثلهم أسأل: هل أنا على صواب فيما أنا مؤمن به ؟ أؤمن بأن الأدب يغير أحوال الناس بتغيير طريقة تفكير عقولهم، قدح في خلدي ما قاله علي عزت بيغوفيتش: ( الإفراط في القراءة لا يجعلنا أكثر ذكاءً، إن بعض الناس يلتهمون الكتب التهاماً. وهم يفعلون ذلك دون التدبُّر اللازم لهضم الأفكار، ولمعالجة، وإدراك، وامتصاص ما قرأوه، وحين يشرع أناس من هذا النوع بالحديث، فإن أفواههم تقذف بقطع كاملة من هيغل، وهيدغر، وماركس؛ كمن يتقيّأ طعاماً نيّئاً، بدون الهضم الضروري! إن القراءة تستلزم جهداً ذاتياً، وهي في ذلك تُشبه احتياج النحلة للجهد الجوّاني، فضلاً عن الوقت، لتحويل الرحيق إلى عسل )، ولما أنا فيه من تعاسة، وصلتني رسالة من أحد القراء الأموات رحمه الله: لم التشاؤم؟ وأنت شجرة مثمرة في صحراء معشوقتك الناصرية التي يلوذ فيها( بك ) الحالمون. أيقنت وانا انهي رسالته بما قاله باولو كويلو: ( أنه ليس للكون من معنى إلا حين يكون لدينا أحد بشاطرنا انفعالاتنا ). هذا يعني أن القراءة في عصرنا هذا مازالت تتطلب أحياناً قدراً من الشجاعة لأنها، بلا شك تغير حياتنا، تغير حياة الناس. بإمكان كلماتي أن تصفها في قصصي ينبض العراق، واستمرت حتى حرب الخليج الثانية بغزو الكويت في عام ألف وتسعمائة وأحدى وتسعين ونحن نتجرع كؤوس القهر والظلم والإقصاء والتجاهل في تسعينيات التاريخ العراقيّ وما رافقها من ضياع وانغلاق لجميع آفاق مستقبلنا بعد حربهم الثانية جيء بالحصار واشتدت قبضتهم، قبضة المحاصرين مع القبضة الاستبدادية للدكتاتورية على أعناقنا وبطوننا حتى انعكست على معنى حياتنا، قرأت في كتاب: ( سلام الردع ) لبنيامين نتانياهو: ( سنجعل من العراق مثالاً مرعباً لكل من يتطاول على إسرائيل، ولو بوردة ). كانت كتاباتنا مختلفة وبعيدة عن جوقة المطبلين لها، المنافقون الذين يتملقون الطاغوت عندما يهدون إليه دور المنتصر على حساب الإنسان، والمثقف الذي يلوذ بالصمت أكثر من النظام الديكتاتوري والقمعي الذي يمارس القتل ضد أبناء الشعب.((69) وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا ۚ وَذَكِّرْ بِهِ أَن تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ وَإِن تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لَّا يُؤْخَذْ مِنْهَا ۗ أُولَٰئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِمَا كَسَبُوا ۖ لَهُمْ شَرَابٌ مِّنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ (70) )، للثقافة أخلاقيات نبيلة، والسياسة حسب قول شيطان السياسة نيكولو ميكافيلي لا أخلاق لها. فإذا افتقدت السياسة هذه الروح النقية العامرة بالآمال فإنها تصبح لعبة متعفنة، تستبيح كل شيء من أجل أغراض فردية وآنية بعيدة كل البعد عن الاهتمام ومتناغمة مع حاضرها تحكي جنون الحصار القاسي المضروب علينا من العالم، حصار استفزني، أستفز كل ما أخزنته ذاكرتي من شقاءات حياتي الأولى وصولاً إلى روائح الدماء والمجازر وزنخ الأجساد الخائفة واحتراق الفراشات والأطفال الرضع والسعادات الضائعة وعمرنا الغارب وقصائدنا المنسية، وطنٌ أضاع الطريق إلى نفسه وأضاع أبناءه وأضاعه أبناؤه الهاتفون أما النصر أو الموت، عشت تلّف حياتنا وعايشت ضراوتها القاتلة، طرزت بحروف من دم المعاناة المراّق ما أرّخه المؤرخ ميشليه: ( يجب أن نحمل صمت التاريخ على الكلام، أي تلك اللحظات المهولة التي يكفّ فيها عن القول، والتي هي بالضبط لحظاته الأكثر مأساوية )، كانت تبدو معها قصصي عن الناس جميعها مخترقة بذلك السيف الأحمر القاتل الذي يتسيد حياتنا اليومية باستمرار يمرق بين القلب والروح مهدداً سلامنا بالرعب والغروب والعطش والفناء حتى دخول قوات الاحتلال إلى العراق في 2003 م، القوات الأمريكية في ساحة الفردوس، ليجدوا العراقيين مرحين وودودين، وصور القتلى في كل مكان، والسلب والنهب على أوجهما يعمان العراق والقوات الأمريكية لا تعمل شيئاً، أذكر جيداً أنني ذات حرب قرأت بأن: ( أمريكا تدعم الدكتاتوريات في العالم العربي بسبب الحرب الباردة والمتغيرات السياسية، كانوا يدعمونها كي لا يصل الشيوعيون إلى الحكم حتى لو أرادتهم شعوبهم عبر الانتخابات )، جاء السلفيون الدينيون الرجعيون ليعاقبوا الشعب العراقي لأنه أعلن عن رغبته في ولوج طريق الحرية، وطموحه في التخلص من أزمنة الاستبداد، وكل محاولاتهم هذه هي تصب في تيئيس العراقيين من إمكانية خروجهم من النفق المظلم الذي وضعهم فيه الاستبداد والاحتلال ). عدنا ثانية لصحارى الذبح والتفخيخ والتفجير والخطف والسلب والاغتصاب والتهجير والتقطيع والتدمير والتشريد والقنص حتى انتهت القاعدة بزرقاويها وداعش ببغداديها، وسدت الطريق عليهم من أن يصلوا إلى قلب العراق، أفضل الأشياء وأكثرها جمالاً في العالم لا يمكن رؤيتها أو حتى لمسها. ينبغي أن يحسها المرء بفؤاده. أني أتذكر كل شيء، كل ما مر بنا، وكل الحياة، كل حياتي أتذكرها لأنني عانيتها، كلنا مأزومون محبطون من أوضاعنا الشخصية وأوضاع بلدنا مثخن الجراح لكن قدرنا أن نكون حداة الدرب نحدق بالشمس ونرنوا للأفق وضوء النهار.
تُرى هَلْ باستطاعةِ الأدبَ أن يُغيّر من هذه الفوضى؟ أسئلة ٌ أضعُها بين أيديكم الكريمة. أَنَّ الأدبَ لم يَعُدْ يملكُ ذلك البريقَ أيامَ جان بول سارتر. إذ كانَ باستطاعةِ روايةٍ أن تُغيّر وجهَ العالَم. أما اليومَ فأن الكتّابَ قَدْ أكتَفُوا بالتعبيرِ عن عَجَزِهم وقُصورِهم السياسي، فقط. انتم تعرفون أَنَّ كُتّابا ً أمثال سارتر، وكامو، ودوس باسوس، وجون شتاينبك؛ هؤلاءُ الكتّابُ العظامُ الملتزمونَ كانوا يثقون ثقة ًمُطلقة ًبصيرورةِ الإنسان ِوقدرةِ الكتابةِ ودورِها الفاعل ِ في رسمِ معالمِ المستقبل، إنَّ الافتتاحيات التي كان يكتبها سارتر وكامو في مجلة ( الأزمنة الحديثة ) ، ومورياك في صحيفة ( الأكسبرس ) كانت بحق كتابات ملتزمة، ترسمُ معالمَ واضحة ً لطريق ِالإنسانية. أما اليومَ فلا أعتقدُ أَنَّ افتتاحية في صحيفةٍ ما يمكنُ أن تُسْهِمَ في حَلِّ مُشْكِلةٍ من مَشاكلِنا التي لا تُحصى، فالأدبُ لم يَعُدْ سوى صدىً لليأس ِ والإحباط ، وما عادَتْ علاقة ُ الفنّ بالحياةِ، وواجبُ الكاتبِ الملتزم، وقوانينُ الفنِّ الملتزم. أكثرَ القضايا حِدّة. زَمَنُنا المُعَقّدُ هذا تسودُه الفوضى، ويتطلّبُ فــَنـّـاً رفيعا ً عظيما ًعن إنسانه المظلوم.
هَميِّ أن أشاطركم الكتابة عن الجيل ِ الآتي، الأولادُ الصغارُ الهاتفون بمعادلةِ النصرِ أو الموتِ، الصِبْيَة ُالذين يذهبون ضحية َحروبٍ عَبَثيةٍ ، وفي تقديري هذه هي القضية ُالأشدُّ رُعْبا ً في حياتِنا ، وأرى أَنَّ مِن مَهمات الأدبِ الوقوفَ بوجهِ تلكَ المآسي. عَلـْـينا التأسيسُ لأجيال ٍ تعرفُ كيفَ تتحاورُ، وتتساجلُ، وتختلفُ، وتبني، وتعرف أنَّ ذلك حَقٌّ صغيرٌ من حقوق ِ وجودها، وقبلَ ذلك أَنْ نُعلِّمَها حجمَها الحقيقيَّ في المحيطِ الإنساني دون استعلاء ولا تبجّح، كما نُعلَّمُها الاعتدادَ بالنفس كبشرٍ ذوي عِزَّةٍ و كرامةٍ تحترمُ عِزَّة َالآخرينَ وكراماتهِم والى أنْ يحينَ ذلكَ السلامُ الوئامُ. تـُرى متى تنتهي هذهِ التراجيديات الدامية، تراجيديات النصرِ أو الموتِ. حتى نُصفَـِّـقَ للسلامِ وبِشدّة ؟
- علي السباعي قاص عراقي