قراءات نقدية في رواية ( ذاكِرة شرّير) للروائي منصور الصّويم

فبراير 25, 20250

أحمد يعقوب

(شواهد النص و مرايا وقائعه)

التاريخ الأدبي الوحيد الذي يعترف به ،هو تاريخ القراءة ، فالقراءات هي التي تكون تاريخية ، وليست الاعمال الادبية ، بحيث ان هذه الاخيرة تبقى دائماً هي نفسها ، ووحدها القراءات تتغير مع الزمن، وقيمة الاعمال تتشكل من خلال القراءات” بورخيس.

 

تأسيس:

لطالما كنت أنحو منحىً مختلفاً في إطار قراءاتي النقدية للرواية ،ودائماً ماأنطلق من زاوية أنني قارئ بالحرف اعتاش وهو فضيلتي الوحيدة ،وفي الآن نفسه أتخطى براديغم النقد المتعارف عليه بين النقاد ؛ مُجترحاً طريقة مغايرة للقراءة ، وتقوم على أن النص الذي لايستهويني كقارئ ،ولايفتح أبواباً تأويلية ولايبعثرني في شتاته السردي ، ولايعطيني حرية أعادة انتاجه مرة أخرى وكتابته مع ضمان ملء فراغاته المتعمدة (احتراماً للقارئ) لن يثير شهيتي أبداً ، وأنا اذْ أقرأ نصّاَ ما فانني أبحث عن ما يخفيه الكاتب ولايريد قوله وعن مسوغات خطابه السردي في نصه الذي بحكم ( موت المؤلف) لايمثله وليس مسؤولاً عن تفسيرات قارئه، ففي الاخير لا قراءة تتطابق مع النص المراد قراءته بل ومراد كل قراءة ان تختلف عن النص لا لتكون شارحة له او ناقدة له بل خالقة لنص مقروء ،نص جديد ضمن تمثًلات النقد يعانق جدليات الاحلال والابدال في مستويات خطابه والمسوغات التي يبررها أو يتناساها.

(1)

النص (ذاكرة شرير)، والذي يقبع بين طيّات 181 صفحة في طبعته الاولى 2010، الصادرعن منشورات الاختلاف – {الدار العربية للعلوم ناشرون } والذي ترجم الى الفرنسية مؤخراً ؛ هو نص جامحٌ ومهتاجٌ وممسوسٌ بكل الثنائيات ، وتتجلى عبقرية النص في اقامة اتفاق القص (Narrative Contract) بين الكاتب والقارئ المحتمل وبين الراوي والمروي له ، والكاتب في سعيه لاقامة بناء الحكاية سعى إلى تقسيم عناصر الحبكة واقامة التوازن بين السرد والوصف ، مدركاً أنه عليه القيام بانشاء شبكة علاقات داخلية وخارجية صريحة أو ضمنية بين الاطراف المذكورة آنفاً، ويتوزع القص بين عدة أصوات حسب الزمكان الحكائي، وفي سعيه الدؤوب للسيطرة على شخوصه ، أفلتت شخصية البطل ( أدم كسحي) من سيطرته مما حدا بالراوي بـ(افشاء المعلومة) وهي مخالفة لصيغة السرد ومتعمدة ؛ تقوم على ذكر معلومات كان الأجدر كتمانها ؛أنه إفراطٌ في الكشف يحدث كعقاب على إفلات شخصية البطل من براثن الراوي. إن أدم كسحي ( الكسيح ) البطل، والذي ولد في العراءات وترعرع على أكل ( الكرتة) ونزق (السلسيون) وتربى في كنف الشوارع وتعلم منها ، ماتت أمه المتسولة مبكرة وتركته لصويحباتها المتسولات ويومها ابتدأت حكاية كسحي، نقرأ ” أمي العظيمة مريم كراتيه دخلت السينما مساء موتها ، وشاهدت فيلماً هندياً راقصاً ، ومليئاً بالورود والاغاني والدماء، بعد خروجهم ؛ وامام بوابة السينما وجدوا صندوقاً خشبياً محطماً فانتزعوا منه شرائح خشبية طويلة تصلح كعصى، قرروا إعادة أنتاج بعض مشاهد الفيلم ، قسموا الادوار بينهم ،فكانت أمي البطلة ، والبطلة تقاتل بجوار البطل ولاتموت ، مثل البطل. الا أن أمي العظيمة مريم كراتيه ماتت، حين ضربه رئيس الخيانة ، ليغوص مسمار بطول البوصة في رأسها ويخترق جمجمتها ويلامس مخها او روحها ، فتنسرق منها الحياة وتقع قرب البطل … بطلةٌ ميتة” ص(12) تبدأ الحكاية من هنا ، تموت بطلة ويبعث بطل آخر ليواصل المشوار وليواجه حياته المتقلبة دوماً مابين الشارع والفلل الانيقة والسجون والفقر والغنى والجنس والكبت والدين والشعوذة والدجل ثم السجن في انتظار الموت الذي هو اليقين الوحيد، في هذه الدارماتيكية يتبدى خطاب المجتمع الذي لايحتاج الى ادم كسحي بعد موت أمه البطلة ولأنه عالة على هذا المجتمع ، فقد تقرر التخلص منه او تسليمه للشرطة أو رميه على قارعة الشارع ، ولكن روح الامومة عند وهيبة المتسولة هي الاخرى تغلبت في النهاية بعد تدخلات العجوز عشة ” سنحتفظ به ونرعاه كأنه ابننا”. ويمكننا معاينة مدى استباقية السارد ، أثناء مراجعاته الورائية أحداثا تبدو متقدمة على مستوى النقطة الزمنية ، التي وصل أليها السرد في الرواية . و هذا ما نلاحظه في مواطن عديدة في فصول النص.

(2)

وفي مسوغات خطاب الرواية التي تكشف إشكاليين عويصين في مجتمعنا ( اطفال الشوارع واستغلالهم ، الشعوذة والدجل)، يتبدى الخطاب في التحاق ادم كسحي بالشارع رسميا ً وسط ترحيب من ( الشلة)، وقيامه بالتسول وفي أعوامه هذه يرى مجتمعه ، سيارات فارهة ووجوه وسمتها النعمة ، منافقين وانبياء كذبة ، واولاد حرام وبائعات هوى ، فترينات العرض الممتلئة عن اخرها بالبضائع المستوردة ، المطاعم الفخمة ، عاشقين يتبادلان القبل، فقراء حد الترف ، متسولين مثله ، مثليين ، كنائس وجوامع، رأى كل ذلك ولم يرى ضمير الانسان الغائب كليّاً، بل كانت الاصوات القبيحة على حد وصفه تنهرهم وتجبرهم على الذهاب بعيداً، واتساءل هل كان الكاتب يمارس نوعاً من التدليل Argumentation كتقنية كلامية تتصل بالخطاب تسمح للكاتب بأن يُعرض قيما يؤمن بها ؟ أو يتصنع الايمان بها للفوز بتأثير القارئ،أو التأثير في مواقفه ومشاعره واحكامه؟ أم هو يتخفى تحت ستار هذه الشخصية ؟ وهوما يعطينا القدرة على تأويل النص والانفتاح على قراءة جديدة .ولكن أدم كسحي الذي شهد موت شيخه( حاجو محمدو )الذي علمه الكتابة والقراءة وبعض سور القرءان سيفارق شلة ( الشماسة والمتسولين) الى براحات أوسع ، سيدخل عوالم الطقوس والغرف المحروقة بالبخور والادعية والمحايات والجان، وسيستقبل في غرفته التي خصصها له الشيخ الفاسق الذي يدواي النساء بمضاجعتهن ؛ نسوة مرفهات وسابحات في بحور بذخهنّ ورجالٌ من علية القوم ووزراء ورجال اعمال يريدون مزيداً من الثروات ،ويمكننا ان نلاحظ في تتبعاتنا إن الروائي (الصويم) في الواقع كان موفقعا في رسمه لشخصياته (وهيبة ، ام سلمة، سنية ، خليل ، زوجة مدير السجن أسيا ، عمران ، العجوز المتصابية) على البعدين الخارجي و الداخلي ، أما الخارجي فتلك الملامح الشخصية الظاهرة للعيان ، و التي تشكل بذاتها الاطار الخارجي لها . و أما الداخلي فهو ما لا نراه ظاهريا ، و أنما هو ما يتعمق و دواخل الشخصية من ملامح تنصب لذاتها على الابعاد النفسية التي لا يدرك كهنها ، إلا بالغوص في أعماق الشخصية و سبر أغوارها . و السارد هنا و من خلفه المؤلف الضمني ، راح يغوص في متابعة أعماق منظور شخصية البطل كسحي و شخصية خليل و سنية و شخوص أخرى من الرواية ، محاولا توضيح مواقع الأحوال الشخوصية صعودا و نزولا ــ لأجل تقديم العلاقات المحورية في النص على أوجه من الأهمية القصوى . لذا فأننا نكتشف أن عوالم الشخوص في الرواية ، كانت على أعلى درجة من درجات مأزومية الشخصية الداخلية و الخارجية.

(3)

في فصلي ( سماء مرصعة بالنجوم – ووسوسة ابليس) التي اعدها من أجمل فصول الرواية واكثرها حرية في تقديم وكشف تبريرات خطابه ،ومن خلال بنية التأمل لتمظهرات هذا الفصل الروائي ، تتحول الكتابة الروائية إلى فضاءات تتحقق من خلالها الصور الطلسمية ، و جنائن لأرواح الموتى ، و هذه التداعيات بدورها تكون منفلتة من سلطة موارد الواقع ( قليلاً)، بل و تخضع هذه المشاهد المكونة لرؤى مخيلة السرد ، الى مكونات غيبانية و غرائبية و حدودها الجغرافية ذات دلالات ملامسة لواقع معارف التنجيم و خزين الظلال النفسية اللامعقولة، نقرأ ( لك غرفتك ياكسحي ،جدرانها ملساء ومطلية بالازرق الطليق مفروشة بالسجاد الفارسي الاحمر؛ المشغول بصور المهاري والفرسان الاصليين . فراشك منخفض ، ويقترب من التراب ملاءاته بيضاء ونظيفة وعلى الحائط عند متناول يدك علقت الواح الكتابة ضخمة عتيقة الخشب ناعمة……. لك صندوق قوارير البلاستيك واقلام الكتابة الخشبية ودفاتر الورق الابيض وجوارها منضدة الكتب المقدسة والصفراء) الرواية . و من خلال هذه المشاهد الفقراتية في النص ، تتبلور في مخيلة السارد الشخصية تلك الأفعال الإيحائية المتصلة بمواطن التفاعلات النفسانية الخاصة في باطن مخيلة اللامعقول ، لتمكنه من تصور مظاهر الأشياء في سمات شخصية هذا الرجل ومن سيزورونه لاحقاً تبرّكاً به وطلباً للعلاج؛ و أمكنته منسجمة مع دقائق البنى الماورائية و المبثوثة بواسطة أخيلة مؤثثات فضاء المكان نقرأ ” حين شرعت في تلاوة ورد الابواب السبعة الشجيُّ والطويل ، صرخت احدى النساء صرخة داوية وحادة ، واصلت القراءة غائصاً في أكثر في النفوس ومتقمصاً أكثر سمات شيخي الفاسق وتعابيره القاسية …” ، في هذا الفصل الذي ربما كتبه الراوي لنفسه يحدد موضعية السارد في النص الروائي ، بموقعه في المستوى السردي ، و في علاقته بالحكاية الروائية . و قد حدد بعض نقاد السرد وضعين اساسيين للسارد/ الشخصية . فأما أن يكون راوياً يروي من خارج الحكاية ، غير مشارك في أحداثها . و أما أن يكون سارداً و مشاركاً في الحكاية . و تبعاً لهذا الأمر وجدنا السارد الشخصية في أحداث رواية (ذاكرة شرير ) يشكل ذلك الحضور المهيمن على محيط الفضاء النصي و نمو الشخصيات كشخصية فاعلة في الأحداث ، فيما راح السارد الشخصية نفسه يشغل محل الصديق الثالث أو الرابع أو الخامس في الرواية.

 

(4)

سيرة الوطن كما يتبدّى في النص:

 تشتمل هذه الرواية على مجموعة فصول ( مثلث الاسمنت ،صلبان تلوح، دم يتناثر، فتيان المستقبل، أيقونات مريم العذراء، السجن وأسيا الاسيانة، سماء مرصعة بالنجوم ، وسوسة إبليس) ، راحت تختص كل منها بالعنوانات التي تقارب وحدات الموضوعة الروائية ، و الدلالة العلائقية الناتجة عن عضوية مكونات واقعية استيهامية غرائبية . فالرواية تبدو عبارة عن سيرة ذاتية لأوهام الوطن وتناقضاته ومشاكله وقضاياه المسكوت عنها بالمعنى المقارب . إلا أنها من جهة ما تبدو فضاءات مسلية ومتبدية في أوهام الشخوص وهي تجدف في مأزومية و تراجيديا النفس الخاسرة ، ويبدو الوطن بسماواته الغائمة في ظلال النص منهوك القوى وخائراً ،أوقيانوس جغرافيته مبعثرٌ بين حلم المهمشين بكل فئاتهم بالحب والخبز ، وفي مقاربات سيرة الوطن وتغريباته كان زمان الحكي ؛في حقب التفكك والفوضى والفساد والسجون والاستغلال والحروب والتهميش والدين والطائفية واللادولة والايديولوجيا المحنطة في الكتب ،منذ عهود الازمنة الكلبية، والاقصاء والاخصاء ، لذلك كانت أزمات الشخوص الروائية في النص أزمات بنيوية ، وفي النهايات التي أرادها الكاتب لشخصياته المحورية في نهايات الرواية أراد لها الروائي مزيدا من حافزية القبح و الظلامية والخوف والهلع والامل الكاذب ،وفي تبديات سيرة البلاد التي جعلتنا و شخوص الرواية جميعا نحيا داخل سطور جغرافيا وطن و بقايا أنسان يقبع في أقصى درجات قاع سراديب بلادنا الواقعة بين الطين و الخراب وهو مقصيٌّ من المشهد كليا ومن حلبة الصراع الاجتماعي وعلى هامش الحقل يبدو منزوياً ؛أدركنا ضعفنا الكامن في اعماقنا ووحشيتنا حين يغيب ما يسمى بالانسان ويظهر مايسمى بالبشر

 

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *