د. نرمين كمال طولان
مقدمة:
تُعدّ تمبكتو من أهم العواصم الإسلامية في شمال إفريقيا، وجوهرة الصحراء المتربعة على الرمال، وهي بوابة العلم في أقصى المغرب الإسلامي، وهي ملتقى القوافل البرية للقادمين من النيجر وليبيا. تمبكتو، مدينة في دولة مالي الواقعة في غرب إفريقيا، لها أهمية تاريخية كمركز تجاري على طريق القوافل عبر الصحراء الكبرى ومركز للثقافة الإسلامية (حوالي 1400- 1600م). تقع على الحافة الجنوبية للصحراء الكبرى، على بُعد حوالي (13 كم) شمال نهر النيجر. وكانت محور رحلات واستكشاف المغامرين والرحالة من أوروبا.
أولاً: التسمية والتاريخ:
1-التسمية
تأسست مدينة تمبكتو أو (تمبتكو) في بعض المراجع في القرن العاشر الهجري، على يد قبائل الطوارق([1]). وهي فرع ماسوفا من قبيلة صنهاجة (بربر) مدينة تمبكتو حوالي عام 1106م كمخيم موسمي لتخزين الملح وغيره من السلع. وتعود اسم المدينة والمكون من كلمتين “تين” و”بكتو”؛ وذلك أن المدينة سُمِّيت على اسم امرأة من الطوارق اسمها “بكتو”، كانت تقيم على ضفة نهر النيجر الذي يحتضن المدينة، وكان الرعاة بحسب الرواية التاريخية الأشهر يودعون حاجياتهم عندها، فسُمِّي المكان بها، لتكون كلمة “تين” كـ “ال” التعريفية بالعربية في لغة الطوارق، أي: مكان بكتو.([2])
وعلى مدى قرنين من الزمان، ظلت تمبكتو مخيمًا شبه دائم، يسكنه إلى حد كبير شعب ماسوفا وجيوب صغيرة من شعب سونينكي، ومالينكي، وفولاني، وشعوب سودانية أخرى. ونتيجة لموقعها الجغرافي، أصبحت تمبكتو في نهاية المطاف مركزًا تجاريًّا رئيسيًّا ومحطة قوافل للمسلمين السودانيين الذين يعبرون الصحراء الكبرى في طريقهم إلى مكة للحج. وفي القرن الرابع عشر، استقرت أعداد كبيرة من التجار/العلماء السودانيين هناك، مما أدى إلى تحويل المدينة إلى مجتمع علمي ناشئ.([3]) حيث حظيت بموقع خصب قرب النهر، وكانت واسطة العقد بين شمال إفريقيا وغربها، فعندها تنتهي الصحراء الإفريقية، وتبدأ السافانا الإفريقية، وهذا ما ساعدها على جذب كل الأعراق في المنطقة.
2-الخلفية التاريخية
تعاقب على حكم تمبكتو أُسَر وزعامات متعددة، وتوالت عدة إمبراطوريات على حكم هذه المنطقة، أهمها مملكة غانا ومملكة مالي، ومملكة الصونغاي، وكان لهذه الممالك دور في ترسيخ مكانة المدينة، وفي نشر الإسلام بها وفيما حولها.
الطوارق ظلت تمبتكو في البداية عبارة عن مخيم للطوارق، ثم تحولت مع مرور الأيام إلى قرية، وظلت تنمو باطراد إلى أن تحولت بفضل موقعها من ملتقى للطرق التجارية إلى مدينة يقصدها آلاف التجار والزوار؛ ووصل ذلك أقصاه في بداية القرن الرابع عشر الميلادي؛ حيث انتزعت وبكل جدارة مكانة مدن كبيرة في ذلك العصر؛ مثل “ولاته” في موريتانيا، و “برنو” في غانا، اللتين كانتا من أهم أسواق التجارة في الغرب الإفريقي آنذاك.([4])
وكان من أول حكامها زعماء من قبيلة مسوفة البربرية، واستمر حكمهم حوالي قرن من الزمن، بدءًا من منتصف ثلاثينيات القرن الـ 14 الميلادي، وفي فترة حكمهم زار ابن بطوطة المدينة، ووصفها بأنها مدينة الملثمين.
مملكة مالي حكمت المدينة أيضًا قبيلة إمغشرن طيلة نصف قرن، قبل أن تدخل تحت حكم ملوك إمبراطورية مالي. ومع سلطان الذهب مانسا موسى بلغت المدينة أعلى درجات الرقي والازدهار؛ حيث جلب إليها بعد رجوعه من رحلة حجّه الشهيرة المدرسين والعلماء والمهندسين. ومما تحكيه الروايات التاريخية أن الإمبراطور مانسا موسى -الذي حكم المنطقة في فترة من القرن الـ 14 الميلادي-، أخذ معه إلى رحلة الحج عام 1324م نحو 180 طنًّا من الذهب، وكانت نتيجة ذلك أن انخفضت أسعار الذهب في مصر آنذاك.([5])
ومع تراجع قوة إمبراطورية مالي في النصف الأول من القرن الخامس عشر؛ أصبحت تمبكتو مستقلة نسبيًّا، على الرغم من أن طوارق ماغشران كان لديهم موقف مهيمن. في هذه الفترة كان يقودها الطوارق أكيل أكامالوا.([6])
مملكة سونغهاي توسعت إمبراطورية سونغهاي الصاعدة، واستوعبت تمبكتو في عام 1468 أو 1469م. تولى قيادة المدينة على التوالي السني علي بر (1468- 1492م)، والسني بارو (1492- 1493م)، وأسكيا محمد الأول (1493- 1528م). على الرغم من أن السني عليّ بر كان في صراع حاد مع تمبكتو بعد غزوها، إلا أن أسكيا محمد الأول خلق عصرًا ذهبيًّا لكل من إمبراطورية سونغهاي وتمبكتو من خلال إدارة مركزية وإقليمية فعّالة، وسمح بقدر كافٍ من الحرية لازدهار المراكز التجارية في المدينة.([7]) مع كون جاو عاصمة لإمبراطورية سونغهاي، تمتعت تمبكتو بموقع مستقل نسبيًّا. تجمع التجار من غدامس وأوجلة والعديد من المدن الأخرى في شمال إفريقيا هناك لشراء الذهب والعبيد مقابل ملح الصحراء في تاغازا والقماش والخيول من شمال إفريقيا. ظلت قيادة الإمبراطورية في يد سلالة أسكيا حتى عام 1591م، عندما أضعفت المعارك الداخلية قبضة السلالة، وأدت إلى تراجع الرخاء في المدينة.([8])
الحكم المغربي تم الاستيلاء على المدينة في 30 مايو 1591م بواسطة الحاكم السعدي للمغرب، أحمد الأول المنصور، جلبت الفترة التالية تدهورًا اقتصاديًّا وفكريًّا. واستمر انحدار المدينة، مع زيادة طرق التجارة عبر الأطلسي؛ مما أدى إلى تهميش دور تمبكتو كمركز تجاري وعلمي.([9]) ونجد بعد الانتصار العسكري المغربي، فرَّ معظم العلماء إلى المدن القريبة، أو قُتلوا، أو سُجنوا في المغرب. أدى الإزالة الجماعية وخروج العلماء من تمبكتو إلى خفض مستوى العلم إلى مستوى منخفض لن تتعافى منه المدينة تمامًا، مما أنهى فعليًّا التاريخ العلمي البارز للمدينة.([10])
الاستعمار الفرنسي: في نهايات القرن الثامن عشر الميلادي 1893م، بدأت أوروبا بالتطلع للمدينة الأسطورة، خاصة عندما زار المستكشف العربي ابن بطوطة المدينة الشهيرة، وأشعلت أوصافه للمدينة الصاخبة خيال الأوروبيين. وفي حين كان الأوروبيون يكافحون العصر الجليدي الصغير والطاعون الدبلي، كانوا يحلمون بشوارع تصطف على جانبيها قِطَع من الذهب في تمبكتو. وقد قررت أوروبا غزو هذه المدينة عبر رحلات استكشاف سرية، أشهرها التي قام بها الفرنسي رينية كاييه 1818م الذي استُقْبِلَ في فرنسا استقبالًا رسميًّا بعد رحلته تلك. لكن فرنسا وغيرها أجَّلوا أحلام غزو تمبكتو إلى عام 1911م، بعد أن ضعف النفوذ المغربي المهيمن حينها. ومنذ بسطت فرنسا نفوذها في المنطقة بدأت المدينة في الأفول بعد أن هجرها أهلها من التجار والعلماء الذي رفضوا التعايش مع الاستعمار وتواروا في الصحاري ومناطق أخرى بالمنطقة، لتفقد تمبكتو أهميتها كمركز علمي ومالي في إفريقيا.
وعانت تمبكتو خلال حكم الاستعمار الفرنسي، كما استهدف البحاثة الفرنسيون المكتبات ودور المخطوطات، و”سرقوا” كثيرًا من الآثار الإسلامية في المدينة، ونقلوها إلى المكتبات، وأدرجوها ضمن الأرشيف الفرنسي.([11])
وعلى مدار القرن العشرين، تسبَّبت موجات الجفاف العديدة في استنزاف إمدادات المياه في المدينة. وألقى البعض باللوم على سوء استخدام السكان الأصليين للأرض في التصحر المتزايد، وطالبوا ببذل جهود جديدة لوقف التصحر. ورأى آخرون أن الأمر مجرد تغيُّر من تغيُّرات الطقس. وبعد موجات الجفاف الشديدة في السبعينيات والثمانينيات، بدا الأمر وكأن تمبكتو لن تسقط أكثر من ذلك.([12]) ولم تكن هذه الهجمات الوحيدة على إرث تمبكتو؛ ففي عام 2012م، استولى المسلحون المرتبطون بتنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي على شمال مالي، وبدأوا في تدمير أيّ شيء يُنظر إليه على أنه حرام أو محظور في ممارساتهم الدينية، بما في ذلك المخطوطات التي يعود تاريخها إلى أجيال، والتي تُميّز مدينة تمبكتو القديمة.([13]) وألحقت أضرارًا بالتراث الثقافي والتعبير الثقافي عمدًا ومنهجيًّا. ودُمِّر أربعة عشر من أصل ستة عشر ضريحًا للقديسين في المدينة، والمدرجة على قائمة التراث العالمي، بالكامل، كما تضررت ثلاثة مساجد بشدة، وأُحرقت 4203 مخطوطة قديمة.([14])
ثانيًا: السكان واللغة والدين:
1-السكان
تمازجت في تمبكتو منذ تأسيسها، وإلى اليوم، أعراق وقوميات مختلفة؛ ففيها تقيم قبائل من الطوارق ومجموعات كبيرة من العرب مثل قبائل لبرابيش وكنته وغيرها، إضافة إلى مجموعات من قبائل الفولان والسونغاي وقبائل البربر مثل مسوفة وغيرها(([15]. والبامبارا والفولاني والدوجون، ويُشكّلون ما يُقدّر بنحو 54500 شخص.([16]) ومجموعة من العائلات الأندلسية المهجرة التي نزحت أواخر حكم ملوك الطوائف، ومن المغرب، والعابرون من بلاد شنقيط والسنغال في قوافل التجارة. وقد تعايش الجميع في سلام وتكامل منذ قرون، وتطورت المعارف الإسلامية جامعة بين نخبة وعوام المجتمعات المذكورة طيلة قرون سامقة في تاريخ المدينة.
2-اللغة
على الرغم من أن لغة البامبارا هي اللغة المشتركة في مالي، إلا أن الغالبية العظمى من سكان تمبكتو اليوم يتحدثون لغة كويرا تشيني، وهي لغة سونغاي تعمل أيضًا كلغة مشتركة. قبل تمرُّد الطوارق في الفترة من 1990 إلى 1994م، كان كل من العربية الحسانية والتماشيك يمثلان 10% لكل منهما مقابل هيمنة لغة كويرا تشيني بنسبة 80%. ومع تحدُّث كل من الإيكيلان والطوارق العرقيين بالتماشيك، انخفض استخدامها مع طرد العديد من الطوارق في أعقاب التمرد، مما زاد من هيمنة كويرا تشيني. وكانت اللغة العربية، التي تم تقديمها مع الإسلام خلال القرن الحادي عشر، هي لغة العلماء والدين بشكل أساسي.([17])
3-الدين
بدأ الإسلام ينتشر عبر شمال إفريقيا، من مصر إلى المغرب، في القرنين السابع والثامن الهجريين، على يد المرابطين، وتسمى المنطقة حول تمبكتو ببلاد السودان، أو بلاد التكرور، ووصفها المستكشفون الأوروبيون بالسودان الغربي. ومن هناك، غامر التجار المسلمون بالتوجه جنوبًا عبر الصحراء الكبرى، وسافروا في قوافل بحثًا عن الذهب والعاج وغيرها من السلع الثمينة على طول نهري النيجر والسنغال. بدأ السكان المحليون في المنطقة في تبني الإيمان الجديد جنبًا إلى جنب مع الثروة التي جلبتها التجارة إلى المنطقة.([18]) وأصبحت تمبكتو حاضنة الإسلام في الصحراء الكبرى ومنارة للعلم.
ثالثًا: المناخ:
تتميز تمبكتو بمناخ صحراوي حار يكون الطقس حارًّا وجافًّا للغاية طوال معظم العام، مع هطول معظم الأمطار في المدينة بين يونيو وسبتمبر، بسبب تأثير منطقة التقارب المدارية. يتجاوز متوسط درجات الحرارة القصوى اليومية في الأشهر الأكثر سخونة في العام – أبريل ومايو ويونيو – 40 درجة مئوية. وتحدث أدنى درجات الحرارة خلال الأشهر الأكثر اعتدالًا في العام – ديسمبر ويناير وفبراير. ومع ذلك، لا تنخفض درجات الحرارة القصوى المتوسطة عن 30 درجة مئوية. وتتميز أشهر الشتاء هذه برياح تجارية جافة ومغبرة تهبّ من منطقة تيبستي الصحراوية جنوبًا إلى خليج غينيا.([19])
رابعًا: الأنشطة الاقتصادية:
كان هناك بضائع كثيرة رائجة في تمبكتو في ذلك العصر القديم؛ حيث كان التجار يقايضون فيها الحرير والتوابل والنحاس الأحمر، ببضائع مملكة مالي الفاخرة مثل الألماس والذهب والعاج وريش النعام، إضافة إلى ملح صحراء «أزواد» الذي اشتهرت قوافله حتى عصرنا هذا.
1-الصناعة (الحرف اليدوية) والسياحة تمثل الحِرَف والسياحة الآن الأنشطة الرئيسية ومصادر الدخل لسكان تمبكتو، ليس فقط بفضل التراث التاريخي والثقافي الغني والمتنوع للمدينة، ومن أبرز الحِرَف اليدوية المنسوجات (55% من الحرفيين قبل عام 2012م كانوا خياطين، و9% مطرزين)، وصناعة المجوهرات (12%)، وصناعة الأحذية (5%)؛ وتشمل الصناعات الأخرى النجارة، وصناعة السلال، والتشكيل، وصناعة المفروشات، والفنون والحِرَف اليدوية المتعلقة بحفظ المخطوطات. وقبل احتلال المدينة، كان أكثر من 50% من شركات الحرف اليدوية في شمال مالي تقع في تمبكتو. وتشير التقديرات إلى أن ثلثي السكان كانوا يكسبون عيشهم من هذا القطاع؛ حيث تضم كل أسرة حرفيًّا واحدًا على الأقل.
2-الزراعة هناك زراعة الأرز والدخن والذرة الرفيعة والقمح، وتربية الأبقار والأغنام والماعز والإبل، فضلاً عن صيد الأسماك التقليدي على طول نهر النيجر. كما وظَّفت صناعة السياحة المزدهرة قبل الاحتلال، بشكل مباشر أو غير مباشر، أكثر من خمسمائة شخص.([20])
لكن أدت العواقب الكارثية لهجمات عام 2012م على التراث الثقافي إلى انحدار كبير في اقتصاد تمبكتو. وتضررت الحِرَف والسياحة، اللتان كانتا تشكلان أكبر مصدر للدخل في المدينة، بشدة أثناء الاحتلال، بسبب غياب الزوار الأجانب. كما واجهت المدينة نزوحًا هائلاً مع فرار سكانها من الجماعات المسلحة، مما أدَّى إلى تفاقم صدمة الناس وخفض مستويات معيشتهم.
خامسًا: الثقافة والفنون:
تذكر الأمثال قديمًا “يأتي الملح من الشمال، والذهب من الجنوب، والفضة من بلاد الرجال البيض، ولكن كلمة الله وكنوز الحكمة لا يمكن العثور عليها إلا في تمبكتو“.
وصفها المؤرخ ليون الإفريقي (الحسن بن محمد الوزان الزياتي)، وصفًا متوهجًا لتجارة الكتب أثناء زيارته للمدينة 1475م؛ بأن المخطوطات كانت تُستورد إلى تمبكتو من شمال إفريقيا ومصر، وكان العلماء الذين يذهبون للحج إلى مكة ينسخون النصوص هناك وفي القاهرة في طريق عودتهم، لإضافتها إلى مكتباتهم الخاصة. وكانت هناك أيضًا صناعة نَسْخ نشطة في تمبكتو نفسها.([21]) وذكر أيضًا أن «المدينة كانت عامرة بالحوانيت، وبها معبد (يقصد مسجدًا) من الحجر والكلس بناه مهندس بارع من أهل غرناطة، وقصر رائع يقيم فيه الملك، حُلِّي بصور كثيرة وقضبان من الذهب يزن بعضها 1300رطل». وعُرفت المدينة آنذاك بتجارة الذهب والملح، وقد عُرفت حينها بسلطانها السوداني “منسا موسى” الذي قام بأشهر رحلة حج في التاريخ؛ إذ اصطحب معه قوافل من الذهب الذي أخذ يُوزّعه في الطريق في القرن الرابع عشر الميلادي. وقد سجَّلت القاهرة حينها هبوطًا حادًّا في أسعار الذهب بسبب الكميات التي وزعها ملك الذهب على المحتاجين.
ولكن لم تشهد تمبكتو “عصرها الذهبي” إلا في أواخر القرن الخامس عشر. ولكنَّ الكتب، وليس سبائك الذهب، هي التي جَلبت لتمبكتو ازدهارها. فقد درس مئات العلماء فيما يقرب من مائتي مكتب (مدارس قرآنية). وعمل هؤلاء العلماء كنُسّاخ، وبالتالي زاد عدد المخطوطات في المدينة. وكانت تمبكتو واحدة من أعظم مراكز التعلم في العالم. لم يسبق للمسلمين الأفارقة أن شهدوا وقتًا أفضل ليكونوا علماء (أو أمناء مكتبة).([22]
خلال سبعينيات القرن الرابع عشر، كلف الملك شارل الخامس ملك فرنسا رسام الخرائط المايوركي أبراهام كريسك بإعداد خريطة مفصلة للعالم المعروف. وقد أنشأ ما يُعرف الآن بالأطلس الكتالوني، والذي يتضمن نظرة مفصلة غنية لمنطقة تمبكتو وسكانها. تصف أساطير الخريطة التجار الطوارق المحليين بأنهم أناس “يغطون أنفسهم بحيث لا يمكن رؤية سوى أعينهم؛ يعيشون في خيام ويركبون الجمال”. والشخصية التي تجلس على العرش وترتدي تاجًا من الذهب وتحمل شارات ملكية هي مانسا موسى “هذا الملك هو أغنى، وأنبل هذه الأراضي؛ بسبب وفرة الذهب المستخرج من أراضيه”.([23])
ويوجد في تمبكتو مجموعة من المخطوطات تصل إلى 700,000 مخطوطة، أكثرها باللغة العربية أو بلغات محلية كُتبت بالحروف العربية موجودة في تمبكتو. حيث ازدهر التدوين في هذه المدينة، حتى وصل مستوًى جعل بعض الخطاطين يكتبون بماء الذهب، كتلك الموجودة بمكتبة الإمام السيوطي، أحد أهم المكتبات في تمبكتو، وتضم مخطوطة لنسخة من القرآن الكريم يعود تاريخها إلى القرن السادس عشر، وسطورها المضيئة مكتوبة بمادة الذهب الخالص، وهي نسخة نادرة جدًّا، إضافةً إلى مخطوط نادر في علم الفلك يشرح الخسوف والكسوف، ودوران الأرض حول الشمس ومخطوطات في الرياضيات والتاريخ والطب والفلسفة.([24]) لقد نهضت تمبكتو وازدهرت بسبب موقعها المثالي. وأصبحت تجمع بين التقاليد المحلية والإسلامية في مجتمع معقد ومزدهر.([25])
أصبحت تمبكتو أحد مواقع التراث العالمي لليونسكو منذ عام 1988م. ليعاني هذا التراث من أضرار لا يمكن قياسها على أيدي بعض المتشددين في عام 2012م، وأوائل عام 2013م، مما أدى إلى تدمير كمية غير محددة من التراث الثقافي للمنطقة. ثم تم إعادة بناء أربعة عشر من الأضرحة الصوفية التي هدمها بعض المتطرفين بحلول عام 2015م، لكن معظم المدينة لا يزال متضررًا.([26])
سادسًا: أهم التقاليد والعادات والمهرجانات:
1-الأطعمة المميزة للمدينة
ألابادجيا Alabadjia طبق بدوي تقليدي يتم طهي اللحوم منفصلة عن عصائرها ومطحونة ومتبَّلة بسخاء بالزبدة، ثم يضاف عصير اللحم، ويخلط مع الأرز المطبوخ مسبقًا.
العصب أو البرغاندي Assab or Barghandi هو طبق بدوي تقليدي مصنوع من الدخن المطحون بما يكفي لتكسيره وإزالة القشرة. يتم سلق الباقي ثم تقديمه مع اللحم والصلصة.
الفتة Al Fitatiيتم هرس أرز الفتاتي، ثم يتم فرد الخليط المصنوع منه بكثافة على الجزء الداخلي من القدر المسخن على النار. ويتم طهيه في بضع دقائق فقط وإزالته. يتم تقديمه كوجبة إفطار مع إضافة كمية صغيرة من الماء الساخن لتليينه قبل تناوله مع السمن والعسل. هذا طبق تقليدي للغاية لا يزال عدد قليل من العائلات في تمبكتو يصنعه.
الكفتة Al Kefta طبق من أصل مغربي، من كرات اللحم الصغيرة في الصلصة. يتم نزع عظام اللحم، وهرسه في هاون مع البصل والثوم والمرق والتوابل الأخرى يمكن تناوله مع الخبز أو وضعه فوق الأرز.
Jissuma Gounday أحد أكثر الوجبات شيوعًا لأنه يتطلب مكونات قليلة وطهيًا أقل تعقيدًا. إنه طبق أرز ولحم مع أوراق الكركديه البرية المجففة المطحونة المطبوخة.
كما تصنع نساء تمبكتو أنواعًا مختلفة من الخبز: الوادجيلا والتوكاسو (المبخر) والتاكولا (أرغفة مسطحة مطبوخة في أفران ترابية توجد بالقرب من مدخل المنازل)، وتقدم هذه الأطباق في المواسم والأعياد الإسلامية، مثل شهر رمضان وعيد الفطر والمولد (الاحتفال بمولد النبي محمد -صلى الله عليه وسلم-).([27])
2-أشهر المهرجانات
مهرجان الصحراء الحدث الثقافي الأكثر شهرة. عندما انتهت ثورة الطوارق في عام 1996م تحت إدارة كوناري، تم حرق 3000 قطعة سلاح في احتفال أطلق عليه اسم شعلة السلام في 29 مارس 2007م؛ لإحياء ذكرى الحفل، تم بناء نُصُب تذكاري.
يُقام مهرجان الصحراء، للاحتفال بمعاهدة السلام، كل شهر يناير في الصحراء، على بُعد 75 كم من المدينة حتى عام 2010م. وعلى الرغم من أن المهرجان مستوحًى من المهرجانات التقليدية التي يقيمها شعب الطوارق، إلا أن المهرجان في الصحراء هو رمز دولي واضح لإفريقيا الحديثة. وأصبحت الموسيقى الشعبية مصدرًا موثوقًا به للتصدير من العديد من البلدان الإفريقية.
مهرجان المولد والذي يحتفل بعيد ميلاد الرسول محمد -صلى الله عليه وسلم-، ولكن في تمبكتو هناك طقوس خاصة عشية مولده. ففي كل مسجد وفي العديد من الأماكن الإسلامية الأخرى في المدينة توجد مجموعات من المتدينين الذين يقضون الليل كله في قراءة القرآن بصوت عالٍ وإنشاد المدائح التي تمدح الرسول محمدًا -صلى الله عليه وسلم-.([28])
عيد الفطر هذا الاحتفال يمثل نهاية شهر الصيام.
العيد الكبير عيد التباسكي، وهو احتفال باستعداد إبراهيم للتضحية بابنه لأمر الله تعالى. وهو مهم للغاية بالنسبة للمسلمين؛ لأنه يمثل الخضوع المطلق لله، وهو أساس إيمانهم. وفي ذكرى هذا اليوم، تذبح كل أسرة كبشًا أضحيةً وتقربًا إلى الله تعالى.
سابعًا: أهم المعالم السياحية:
حفلت تمبكتو خلال عقود منصرمة بإقبال هائل من السياح الغربيين، ونظرًا لكثرة الإقبال على المدينة التاريخية، أُقيم أول مطار في المدينة منتصف التسعينيات، ليرفع من القدرات السياحية في المدينة، التي احتضنت أيضًا فنادق عصرية متعددة. وتشتهر تمبكتو بالعديد من المعالم الثقافية والعلمية، من أهمها مكتباتها العريقة التي تحتفظ بنحو 300 ألف مخطوطة، وتختزن صفحات هذه المخطوطات واحدًا من أهم الكنوز الثقافية الإسلامية في إفريقيا.([29])
إن مساجد تمبكتو هي آثار حية، تخضع للتغيير بشكل منتظم بسبب نزوات الطقس السيئ وإرادة الإنسان. ومع ذلك، فإنها تحافظ على عناصر قديمة للغاية تتعايش في وئام، مع إضافات أحدث بكثير وتتميز العمارة المحلية في تمبكتو بالمساجد الطينية.([30])
مسجد دجينغيربر المسجد الكبير، والمعروف أيضًا باسم دجينغيربر أو دجينغيري بير، هو مركز تعليمي شهير في تمبكتو. بُنِيَ عام 1327م، وهو أحد المدارس الثلاث التي تشكل جامعة تمبكتو. وقد أُدرج في قائمة مواقع التراث العالمي لليونسكو عام 1988م ينسب تصميم وبناء مسجد دجينغيربر تقليديًّا إلى العالم الأندلسي أبو إسحاق الساحلي. ووفقًا لابن خلدون -أحد أشهر المصادر عن مالي في القرن الرابع عشر – فقد قيل: إنه تلقى 12000 مثقال من غبار الذهب مقابل العمل. في المقابل ترفض التحليلات الأحدث هذه الرواية، وتثبت أن الأسلوب المعماري لمسجد دجينغريبر وغيره في غرب إفريقيا مستمد بشكل أساسي من المساجد في الصحراء والعمارة والأديان الإفريقية التقليدية. وبالتالي يُعامل التأثير الساحلي على العمارة في غرب إفريقيا باعتباره أسطورة مسجد دجينجاريبر، الذي يعود تاريخ بنائه الأولي إلى السلطان كنكان موسى، العائد من الحج إلى مكة. ثم أُعيد بناؤه وتوسيعه بين عامي 1570 و1583م مِن قِبَل الإمام العاقب، قاضي تمبكتو، الذي أضاف الجزء الجنوبي بالكامل والجدار المحيط بالمقبرة الواقعة إلى الغرب. وتهيمن المئذنة المركزية على المدينة، وهي واحدة من المعالم الأكثر وضوحًا للمشهد الحضري في تمبكتو.
كما أن الموقع التاريخي الرئيسي في تمبكتو هو مسجد دجينغويريبير، الذي يطل على المدينة بمئذنته المركزية المذهلة. ويُعدّ المسجد مركزًا دينيًّا كبيرًا، بالإضافة إلى كونه مدرسة للتعليم الشرعي، ومؤسسة فكرية للتعليم. وقد تم ترميم الموقع مما يجعله مكانًا رائعًا للزيارة في مالي للزوار الحريصين على الاستمتاع بروعة هذه المدينة القديمة.
مسجد سانكوري تم بناؤه في القرن الرابع عشر، مثل مسجد دجينجاريبر، على يد الإمام العاقب بين عامي 1578 و1582م. ولقد هدم هذا المسجد، وأُعيد بناؤه وفقًا لأبعاد الكعبة المشرفة في مكة.
ومسجد سانكوري، يُعرَف أيضًا باسم جامعة سانكوري، والذي بُني في أوائل القرن الخامس عشر.
مسجد سيدي يحيى، إلى الجنوب من مسجد سنكوري، بُنِيَ هذا المسجد حوالي عام 1400م على يد المرابط الشيخ المختار حمالة، وتم اختيار الشريف سيدي يحيى إمامًا له. ثم تم ترميم المسجد في عامي 1577-1578م على يد الإمام العاقب.([31])
هذا، ولا تزال المساجد الثلاثة الكبرى في دجينجاريبر وسنكوري وسيدي يحيى، بالإضافة إلى ستة عشر ضريحًا وأماكن إسلامية عامة، تشهد على هذا الماضي المرموق للمدينة. وتُعدّ المساجد أمثلة استثنائية للهندسة المعمارية الطينية وتقنيات الصيانة التقليدية، والتي لا تزال مستمرة حتى الوقت الحاضر.
جامعة سانكوري أبرز المؤسسات الإسلامية في تمبكتو، جامعة سانكوري، تأسست عام 1581م. وتعتبر مركز الدراسات الإسلامية في تمبكتو، وقد بُنيت على بقايا موقع أقدم، يرجعه علماء الآثار إلى القرن الثالث عشر أو الرابع عشر. وقد أظهرت بنية مختلفة تمامًا عن الجامعات الأوروبية المعاصرة، وتألفت من كليات متعددة ومستقلة تمامًا.
خاتمة:
تمبكتو مدينة الذهب، كما حلم بها الأوروبيون، وإن لم تكن تستخرج الذهب، لكنها أنتجت ذهبًا من نوع خاص، جعلها مركزًا للثقافة والعلم والإبداع. فكانت تمبكتو مركزًا للفكر والثقافة في غرب إفريقيا وبين طيات الصحراء الكبرى. تجلى ذلك في مخطوطاتها الفريدة في علوم الدين والطب والفلك والرياضيات والشعر. تلك المخطوطات التي زُيِّن أكثرها بماء الذهب، فكانت المدينة بحق (جوهرة الصحراء).
………………………..
[1] –https://www.britannica.com/place/Timbuktu-Mali
[2]– https://www.skynewsarabia.com
[3] – Brent D. Singleton: African Bibliophiles: Books and Libraries in Medieval Timbuktu, California State University, San Bernardino, bsinglet@csusb.edu
[4] – https://www.skynewsarabia.com
[5] – https://www.skynewsarabia.com/world
[6] -https://en.wikipedia.org/wiki/History_of_Timbuktu#cite_note-FOOTNOTESaad1983213-20
[7] -Saad, Elias N: Social History of Timbuktu: The Role of Muslim Scholars and Notables 1400–1900, . (1983),
[8] -Saad, Elias N.: (, Social History of Timbuktu: The Role of Muslim Scholars and Notables 1400–1900, 1983)
[9] – Hunwick, John O. (2000), “Timbuktu”, Encyclopedia of Islam. Volume X
[10] – Brent D. Singleton: African Bibliophiles: Books and Libraries in Medieval Timbuktu, California State University, San Bernardino, bsinglet@csusb.edu
[11] – https://www.skynewsarabia.com/world
[12] – Lorraine Boissoneault: The Golden Age of Timbuktu, The icon indicates free access to the linked research on JSTOR. June 25, 2015
[13] – KAI MORA: How Timbuktu Flourished During the Golden Age of Islam, JUNE 6, 2022
[14] -JAMES CUNO, THOMAS G. WEISS: Cultural Heritage and Mass Atrocities. (2022)
[15] – Lorraine Boissoneault: The Golden Age of Timbuktu, The icon indicates free access to the linked research on JSTOR. June 25, 2015
[16] – JAMES CUNO, THOMAS G. WEISS: Cultural Heritage and Mass Atrocities. (2022)
[17] -https://en.wikipedia.org/wiki/Timbuktu
[18] – Editors of National Geographic: Why Timbuktu’s true treasure is its libraries September 30, 2021
[19] – https://en.wikipedia.org/wiki/Timbuktu
[20] – JAMES CUNO, THOMAS G. WEISS: Cultural Heritage and Mass Atrocities. (2022)
[21] – https://tombouctoumanuscripts.uct.ac.za/overview/timbuktus-history
[22] – Editors of National Geographic: Why Timbuktu’s true treasure is its libraries September 30, 2021
[23] — Editors of National Geographic: Why Timbuktu’s true treasure is its libraries September 30, 2021
[24] – https://www.facebook.com/Ginfos.History/posts/
[25] – Mary Beth Roe: Timbuktu: From Myth to Reality of Mali’s Fabled City, https://surface.syr.edu/cgi/viewcontent.cgi?article=1099&context=chronos
[26] – https://en.wikivoyage.org/wiki/Timbuktu
[27] – https://www.exploretimbuktu.com/culture/culture/food.html
[28] – https://www.exploretimbuktu.com/Mali%20General/Mali%20General/holidays.html
[29] – Brent D. Singleton: African Bibliophiles: Books and Libraries in Medieval Timbuktu, California State University, San Bernardino, bsinglet@csusb.edu
[30] – Thierry Joffroy: Traditional conservation practices in Africa, ICCROM CONSERVATION STUDIES, 2005
[31] – https://whc.unesco.org/en/list/119/
المصدر: قراءات إفريقية