شمس الدين ضوالبيت
موسوعة ابن كثير الموسومة “البداية والنهاية” هي، في قول عالم اللغة العربية الدكتور عبد الله الطيب، واحدة من أهم مراجع الحضارة الإسلامية. أورد ابن كثير في موسوعته تلك تفاصيل ما أفضت إليه عملية “الشورى”، التي ابتدرها أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، وهو في فراش الموت، وسمى المشرفين عليها، لاختيار خلف له يتولى إدارة شؤون المسلمين من بعده. قال ابن كثير إن مفوض أهل الشورى الستة، عبد الرحمن بن عوف، قام “[باستشارة] الناس وأجنادهم؛ جميعا وأشتاتاً؛ مثنى وفرادى ومجتمعين، سراً وجهراً، حتى خلص إلى النساء المخدرات في حجابهن، وحتى سأل الولدان في المكاتب، وحتى سأل من يرد من الركبان والأعراب إلى المدينة، في مدة ثلاثة أيام بلياليها، فلم يجد اثنين يختلفان في تقديم عثمان بن عفان، إلا ما ينقل عن عمار والمقداد أنهما أشارا بعلي بن أبي طالب”.
جرت هذه العملية، التي نطلق عليها بمصطلحات اليوم استفتاءً ديمقراطياً حراً لا ختيار رئيس الجمهورية، عام 644 م، أي قبل 1380 عاماً من وقتنا هذا. لكن برغم قدم تاريخها فيمكن أن نستخلص من تقرير ابن كثير عنها، أنها –بمعايير وقتها- قد استوفت كل مطلوبات العمليات الانتخابية الديمقراطية المعاصرة: شمول المشاركة في الاستفتاء؛ حرية التعبير عن الرأئ؛ التنافسية الحرة والمساواة بين المرشحين؛ نزاهة الشروط المنظمة للعملية الانتخابية؛ حياد وكفاءة الجهة المشرفة على الاستفتاء ..الخ.
ومعروف أن مفوضية الاستفتاء او الانتخابات تلك، قد تكونت من ستة أشخاص “ممن توفى رسول الله، وهو عنهم راض” وهم عثمان وعلي وطلحة والزبير وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص. ويضيف ابن كثير أن عمر لم يذكر سعيد بن زيد، وهو فيهم، لكونه من قبيلته، فهو ابن عمه، خشية أن يُراعى في الإمارة فيُولى، لأنه ابن عمه. وأضاف عمر إلى [المفوضية] ابنه عبد الله، قائلا: “يحضركم عبدالله، وليس له من الأمر شيء، يحضر الشورى.. ولا يُولى شيئا”. معيار الاختيار في المفوضية كان “رضا رسول الله”، وكان ذلك يعنى “تقواهم وحسن خلقهم”، وهو ما تترجمه قوانين الانتخابات الحرة اليوم بأن يكون عضو المفوضية (مشهوداً له بالاستقلالية والنزاهة والحياد، وألا يكون قد أدين من قبل في جريمة متعلقة بالأمانة أو الشرف أو الفساد الأخلاقي) ..
الأساس الجامع الذي استوفت به عملية الاستفتاء تلك مطلوبات العمليات الانتخابية الديمقراطية المعاصرة هو الحرية: شمول المشاركة في العملية بلا تقييد، حتى أنها شملت، في تقرير ابن كثير، الأعراب وقوافل التجار القادمين للتجارة في أسواق المدينة وليسوا من أهلها؛ وحرية الاختيار في التصويت، بلا إكراه، وحياد ونزاهة المفوضية، ونشرها للنتيجة، بما فيها أسماء من صوتوا لعلي ..الخ.
سيثور فوراً التساؤل حول مصدر ومرجعية هذه الثقافة والممارسة الديمقراطية الرفيعة ..!! باستثناء التجربة الأثينية في بلد اليونان لا يحفظ لنا التاريخ المكتوب نماذج شبيهة، فمن علّم عرب الجزيرة تنظيم الحرية بالديمقراطية..؟!!
لن يطول البحث بالتأكيد، فالقرآن الذي دارت في تلك الأحداث على خلفيته يؤكد على مبدأ الكرامة: {ولقد كرمنا بني آدم، إلى قوله وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا}. ولا يمكن بالطبع الحديث عن كرامة بلا حرية، والمادة الأولى من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان أوضحت هذا الارتباط (يولد الناس أحراراً متساوون في الكرامة وقد وهبوا عقلاً وضميراً). كذلك لا يمكن الحديث عما جاء في القرآن من أن {أمرهم شورى بينهم} دون حريات، وهي الحريات التي رأينا تطبيقاً عملياً لها في الاستفتاء كعملية شورى. ومن ثمَ تتوالى الآيات العامة للحرية في القرآن: {لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي}، {إنما أنت مذكر لست عليهم بمسيطر}؛ {..أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين}؛ {قل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر} ..
كذلك هناك المأثور من قول الخليفة أبي بكر الصديق (..فإني قد وليت عليكم ولست بخيركم فإن أحسنت فأعينوني وإن أسات فقوموني، الصدق أمانة والكذب خيانة). والمأثور من أقوال عمر بن الخطاب (متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً)؛ و(أصابت إمرأة وأخطأ عمر)؛ وما روي عنه أنه قال (أيها الناس من رأي منكم فيَ إعوجاجا فليقومه. فقام له رجل وقال: ولله لو رأينا فيك إعوجاجا لقومناه بسيوفنا، فقال عمر الحمد لله الذي الذي جعل في هذه لأمة من يقوم اعوجاج عمر بسيفه)..
لقد دشن القرآن والممارسة التطبيقية للخطاب الراشدي الحرية كقيمة أصيلة و”بيضة” للمنهج الإسلامي. (وتعني “البيضة” لغة واصطلاحاً الأصل أو القلب أو المركز المحمي). واعتمدها رافعة أساسية لحركة وتطور المجتمعات المسلمة.. لكننا عندما نعود لنبحث عن ممارسة ديمقراطية شبيهة بتلك التي جرت لانتخاب عثمان بن عفان فلا نجد لها أثراً منذ لك الحين..!! فما الذي حدث؟!
صار معروفاً اليوم أن فترة عمر الخطاب كانت ذروة خطاب الخلافة الراشدة، وأن نهاية فترة الخليفة عثمان كانت جزءا مما عُرف في التاريخ الإسلامي بـ”الفتنة الكبرى”. انتهت صراعات الفتنة الكبرى بانتصار معاوية بن سفيان على علي بن أبي طالب، وتولي معاوية للحكم، وعودة البيت الأموي إلى السلطة بقوة السلاح، وتأسيس ما عُرف في التاريخ الإسلامي بـ(الملك العضوض)، الذي واصله العباسيون من بعد الامويين..
بدءا من معاوية، وخلافا لما كان سائدا قبلها منذ وفاة الرسول، صار طريق الوصول إلى الحكم هو استعمال القوة المادية، ما عُرف لاحقا بـ”إمامة المتغلب”، بديلا لبيعة “الشورى”. فمعاوية عندما أراد أخذ البيعة في الملك من بعده لابنه يزيد جمع في مجلسه الوفود من سائر الأمصار ليطرح عليهم الأمر، فـ”قام يزيد بن المقفع فقال: أمير المؤمنين هذا، وأشار إلى معاوية، فإن هلك فهذا، وأشار إلى يزيد، فمن أبى فهذا، وأشار إلى سيفه. فقال معاوية: اجلس فإنك سيّد الخطباء”.
بتدشين “إمامة المتغلب” صودر ركن أساسي من أركان الحرية القرآنية المرتبط بالشورى.
استوجب التحول إلى النظام الملكي بالطريقة التي تم بها، إجراءات أخرى عديدة، فانصب التركيز بعد تدشين إمامة الغلبة على تقييد “حق التعبير” وتقليص وتحجيم مساحة “الرأي”. فجرى انتقاء ترسانة من الأقوال والمأثورات للتنفير من الرأي، ومن فقه الإمام أبي حنيفة. وانتشرت قاعدة سياسية للحكم اصدرها معاوية مفادها “إنني لا أحول بين الناس وألسنتهم ما لم يحولوا بيننا وبين سلطاننا”.
كذلك بسط عبد الله ابن المقفع الكاتب لأبي جعفر المنصور مجموعة من النصائح والتوصيات في إدارة الملك، أوضح فيها التهديد الذي يشكله السماح بحرية الرأي على سلطة الملك. انتقد ابن المقفع في تلك الوثيقة مبدأ اجتهاد الفقهاء، مشهرا بـ”فساد القياس”، الذي يعتمدونه طريقا لاستنباط الأحكام، والمقصود به القياس الحر الذي يعتمد الرأي، كما يقول به أبو حنيفة. ونبه ابن المقفع الخليفة المنصور إلى أن ممارسة الرأي في الفقه، تؤدي إلى الاستقلال بالرأي في الشؤون الأخرى، “وفي ذلك مزاحمة للخليفة”.
لم يكن غائبا على حكام كلتا الدولتين الاموية والعباسية أن القوة المادية وإشهار السيوف لا تكفي وحدها لكف تهديد الخصوم -الذين كانوا قد تسلحوا بـ”خطاب” ديني- ولا لضمان طاعة الرعية. لذلك حرص أولئك الحكام، من أجل تمتين الأساس الذي يقوم عليه “الملك” في الدولتين، من تحجيم وإعادة قولبة الخطاب الفكري والثقافي العام، الآخذ في التبلور حول الفقه، باعتبار ما صار للفقه من “مهمة التشريع للمجتمع”، وكمصدر أساسي للمعرفة حول السلوك الفردي والسياسات العامة.. ومن ثمّ بدأت عملية الارتداد الواسعة عن الخطاب الراشدي والقيم القرآنية الكلية الداعمة للحرية.
كان الجسر الذي عبرت منه عملية الارتداد الفكري من الحرج الجسيم، اعترافاً أولياً خجولاً بأن الدنيا قد نالت من أولئك الحكام “بعض الشيء، وحملتهم على اتباع الهوى في بعض الأمور.. حرصا على الحكم والسلطان.. وما أعظم فتنة الحكم والسلطان”. لكن الموقف العام يقفز سريعاً، بخطاب اعتذاري متغاض عن تلك الأهواء والتفلتات، ليصف الحكام بأنهم “ما كانوا يكرهون الإسلام ولا يستكبرون عن حكمه وتحكيمه، بل كانوا يطبقونه، ويرعون شؤون المسلمين على أساسه، وأعلنوا الحرب على أعدائه، ودافعوا عن بيضة المسلمين، وحموا الإسلام”.
شملت عملية الضبط والمواجهة المعنية تثبيت جوانب في الفقه، وانتقاء جوانب من بين أخرى، والإخفاء أو التقليل من جوانب ثالثة، بل وإضفاء طابع ديني على عناصر لم تكن كذلك في الأصل. وقد جرى التسابق على هذه السيطرة من خلال تشكيل منظومة شفهية ومكتوبة عاكسة للمواقف السياسية المتخاصمة لكل فرقة، منذ نشأة الفرق الإسلامية، وتواصل هذا التسابق الذي اشتد طوال العهد الأموي والعباسي وحتى عهد الدويلات التي نشأت في القرن الرابع الميلادي.
ولأن الفقه قد نشأ منذ البداية على طبيعة كلية تتسم بالشمول اكتسبها من استناده إلى رؤية موحدة، جرى التعبير عنها في “علم أصول الفقه”، الذي ربط بين مجالات الفقه المختلفة- فلم تقتصر مساعي التقييد والسيطرة على مجالات السياسة المتصلة بالحكم، أو ما عُرف لاحقا بـ(الأحكام السلطانية)، بل استوجب ذلك الترابط أن تتجاوز مساعي السيطرة على الجانب ذي الصلة المباشرة بالحكم والسلطة، للتحكم في مجمل مخرجات بنية الرؤية، والرقابة وممارسة السيطرة على جميع مجالاتها، حتى لا يتسرب من جوانبها الأخرى “قول” يتحول إلى “فعل” قد يصبح مصدر تهديد للحكم.
هنا يقدم الصدام الذي وقع بين الإمام مالك بن أنس، والسلطة على عهد أبي جعفر المنصور، بسبب قول لمالك لم تكن له صلة مباشرة بأمور السياسة، نموذجا للترابط بين مجالات الفقه، من جانب، ومساعي السيطرة من الجانب الآخر:
كانت مقولة مالك في أحد دروسه إنه “ليس على مستكره طلاق”. لكن المنصور وولاته وجدوا في نشر هذا الحديث خطرا عليهم وعلى كيانهم، وذلك لأن المناوئين لحكم أبي جعفر وجدوا فيه مستندا قوياً على التحلل من بيعة المنصور، إذ قاسوا البيعة على الطلاق فقالوا: إذاً “ليس على مستكره بيعة”، لأنها جاءت أيضاً عن طريق الإكراه. وتضيف الرواية أن المنصور نهى مالك أن يحدِّث بهذا الحديث، “ثم دس إليه من يسأله عنه، فحدث به على رؤوس الناس، فضربه”.
لقد كانت النتيجة أن حوّر الانقلاب “بيضة” المسلمين من كونها “حزمة الحريات المتكاملة” لتصبح “تمتيناً لإمامة الغلبة” .. فصعدت الحضارة الإسلامية بقوة الدفع الأولى التي أطلقتها تلك الحريات لمدة، ثم لتنفد طاقة الدفع التي لم تعد متجددة، لكي تهوى المجتمعات المسلمة من بعد ذلك في متاهة بلا منتهى..