*تشارلس لارسون
ترجمة : منجد باخوس
(1)
في خريف العام 1962،عندما بدأت تدريس الأدب الإنجليزي لطلاب الثانوية العامة بنيجيريا؛ إصطدمت بتحديات عديدة غير متوقعة شكلت حجر عثرة في طريقي(كلها كانت ثقافية)،لم تكن قضية علم أو تكنولوجيا و منتجاتها العديدة كما توقعت:(ما هو المرحاض الدافق؟) سؤال من أحد الطلاب! ؛ ترتبط هذه القضية بما أسميته فيما بعد ب”المواد المحكمة ثقافياً”.
كانت تجربة كافية تجعلني أعرف أن طلابي الأفارقة يواصلون قراءة رواية من العصر الفيكتوري تتكون من “450”صفحة(في تلك الأيام كانت إحدى مطلوبات الحصول على الشهادة من المدراس التي تدار بإشراف بريطانيا)، في الحد ألأدنى على الأقل؛هؤلاء الطلاب تعودوا بقضاء شهور عديدة أو معظم شهور السنة لإنهاء القراءة ومن ثم مناقشة الحبكة والخطوط السردية المركزية لرواية واحدة!.
بالتأكيد؛ طول الرواية وحده كان كافيا لإنهاكهم؛ لطالما اللغة الإنجليزية ليست لغتهم الأم، و أيضاً معاني الكلمات الإنجليزية في حد ذاته شيء مرهق للغاية لهؤلاء الطلاب. على الرغم من ذلك؛ إشكالية اللغة، معاني المفردات و التراكيب النحوية تم التغلب عليه،بحيث القراءة عبر مفردات أقل صعوبة من الفهم الكامل لما يختبئ خلف هذه المفردات نفسها وربطها بتجربة الأدب و محمولاتها الثقافية.
(2)
لوسمحت يا أستاذ!
“ماذا تعني هذه الكلمة:”يُقبِل”!
هذا السؤال بالذات؛ كان من أكثر الأسئلة التي واجهت صعوبة بالغة في الإجابة عليها، على عكس الأسئلة الشائعة و المألوفة عن الحبكة و الشخصيات و الأحداث في رواية ما، لكن الصدمة الصاعقة حينها..عندما فكرت لوهلة أن هذا التلميذ يبدو ساذجاً!لذلك تجاهلت السؤال و الإجابة عليه، لكن تفاجأت بتكرار السؤال مرة أخرى من طلاب آخرين، ثم شيئاً فشيئاً تجلى لي بوضوح أن تلاميذي كلهم ليس لديهم أي خلفية عن ماذا يعني الفعل”يُقبِل”!
بالطبع؛ كان ذلك شيئاً غريباً كلياً بالنسبة لي؛لأن التلاميذ كلهم كانوا في نهاية مرحلة مراهقتهم-بعضهم في بداية العشرينيات-و بالتأكيد؛سمعتهم مرات عدة بالمصادفة يتحدثون عن حبيباتهم،إضافة إلى وجود شائعة أن بعضهم متزوج بالفعل على الرغم من أن ذلك غير مسموح به وفقاً لأعراف المدرسة و قوانينها.
لكن؛ السؤال أصبح متواتراً إضافة لأسئلة أخرى ذات طبيعة مماثلة.جزئياً؛ وبلا شك،لأننا كنا نقرأ لتوماس هاردي روايته: “بعيداً عن الصخب”
لماذا تكون شخصيات هاردي هائجة عندما تقبِل ؟!:طالب يسأل!
عندما سألت مدرساً أفرو-أوروبي: لماذا يبدوا طلابي دائما جاهزين للعودة لنفس السؤال؟!، كنت أكثر دهشة حينما عرفت أن الأفارقة- تقليدياُ على الأقل-لا يقبِلون! عرفت ما كنت أعتقد أنه شيء فطري في كل المجتمعات الإنسانية،لأعلم حينها أنه فعل ثقافي بإمتياز.
“ليس كل البشر ميالون للتقبيل”، أو بطريقة أكثر دقة:ليس كل البشر قد تعلموا من قبل فعل التقبيل! (بعد فترة؛ عندما شاهدت فيلماً أمريكياً بمعية مشاهدين أفارقة؛ فهمت بوضوح لماذا ينسحق المشاهدون تحت نوبات ضحك هستيرية بمجرد رؤية مشاهد رومانسية في الفيلم.
كيف كان للشخص أن يقرأ رواية توماس هاردي مع كل تلك القُبل الساخنة دون أن يكون الشخص مارس التقبيل من قبل؟! كيف يمكن لي أن أشرح ذلك لطلابي الأفارقة؟! أو تحويل خبرتي لقضية تقنية بإعتبار بنية الرواية التي أيضا حيرت وأربكت تلاميذي،ماذا عن تلك الفقرات الوصفية الطويلة التي إشتهر بها هاردي؟
تلاميذي الأفارقة لم يستطيعوا فهم ماذا يفيد الوصف الطويل للقرى مع الحبكة في الرواية! الشيء الذي تعلمت منهم فيما بعد طريقة أخرى مغايرة في التفكير،بحيث عرفت أن الخلفيات الثقافية تحدد و تشكل طريقتنا في فهم وتأويل الأعمال الأدبية.
بعد ذلك عكفت بشكل جدي لدراسة الرواية الأفريقية نفسها.سؤال واحد فقط عن القُبلة كشف بشكل واضح عن الخلفية الثقافية للتلميذ،أيضاً؛ كشف عن إهتمام الطلاب بالفقرات الوصفية في كتاب هاردي!
الحقيقة التي يجب الوقوف عليها هي أن الفقرات الوصفية عمليا لم تكن موجودة في الأدب الأفريقي،لطالما كان جيل الروائيين الأفارقة الأنجلوفونيين الأول،على الأقل؛ نشأوا بشكل كامل تقريبا على نمط الرواية الفيكتوري، بحيث بعض مقومات الرواية الفيكتورية وجدت طريقها إلى الأدب الأفريقي،لكن الوصف لم يكن ضمنها! هل يكشف هذا الإغفال بشكل أساسي شيئا ما يشكل عامل الاختلاف بين موقف المجتمعات الغربية و الأفريقية تجاه الطبيعة؟! تجاه بيئة كل واحد منهما؟!.
التقبيل والوصف،الموقف تجاه الحب والطبيعة-هل هذه المواقف مختلفة جدا بالنسبة للأفريقي؟! هل طريقة الأفريقي في الحياة أكثر تعقيدا من طريقتنا؟! أم هل “المواقف الكونية” إفتراضيا يجب أن تكون مطابقة لنا، محض سذاجة؟! هل هذا حقا ما نعني حينما نتحدث عن “الكونية”في الأدب،إذا لم يكن رد فعل شخص مطابق لردود أفعالنا حينما يقرأ أدبنا، هل يمكن إعتباره أدنى مرتبة؟! ربما المصطلح ذاته هنا فاقد لأي معنى ولا جدوى منه.
البشر يحبون و يموتون في كل الثقافات بالطبع، على الرغم من ذلك ردود أفعالهم في تلك المناسبات بشكل كبير تختلف عنا،بالمقابل هذه الردود هي ذاتها التي تشكل إنفعالاتهم وردود افعالهم حين يقرأون الأدب أيضا.
(3)
بشكل واسع، مصطلح “الكونية” أسيء أستخدامه على نحو فادح، خصوصاً عندما يتم تطبيقه على الأدب غير الغربي، لأنه غالبا ما يستخدم في سياق بحيث يتم تجاهل تعددية الخبرات والخلفيات الثقافية.
عادة، عندما نحاول فرض مفهوم “الكونية” على شخص هو بالأساس ليس غربياً؛ أعتقد أننا بشكل ما نؤكد بأن ثقافتنا هي المعيار الأساسي للقياس!، لماذا نحن نتوقع أن يتفاعل الآخرين بنفس الطريقة التي نتفاعل بها؟!…لكن دعنا نعود إلى ما يسمى بالتجارب الكونية في كل الآداب لنوضح أنها قد تكون جذريا مختلفة؛ على الأقل للأفارقة.
في مقدمته لرواية تسو تشين الصينية (أحلام الحجرة الحمراء)،يقول مارك فان دورين: قصص الحب العظيمة لا مكان لها ولا ميقات لوقوعها أيضا. بصراحة أشك في هذا، بغض النظر عن مقولة ناقد أدبي غربي آخر الذي قال إن أكثر الثيمات الشائعة في الأدب هي الحب!
بعد قراءة عشرات العشرات من الروايات الأفريقية المعاصرة، أستطيع قطعا رفض تأكيدات دورين. هنالك على الأقل جزء كامل من العالم حيث قصص الحب فعليا لم تجد لها مكانا للوجود، أستطيع أن أقول لا توجد رواية أفريقية واحدة يمكننا القول بناء على الثيمة أو الحبكة المركزية أنها “قصة حب”، لا توجد رواية أفريقية يتطور فيها الحدث و مسار السرد والحبكة بسبب محاولات البطل للحصول على رفيقة!، لا توجد رواية أفريقية بحيث الإغواء هو الهدف الأساسي، لا توجد رواية أفريقية بحيث قدر العاشقين هو العامل الأكثر أهمية في القصة.
لا توجد رواية أفريقية مكتوبة بتلك الطريقة لأن الحب ببساطة كثيمة في الذائقة الأدبية الغربية مفقود. الحب الرومانسي، الإغواء والجنس: هذه ليست مواضيع الأدب الأفريقي. في الحقيقة، إن معظم الأعمال الأدبية المعاصرة في أفريقيا تلعب النساء فيه دورا محدودا، فمعظم الأدوار يحتلها الذكور، ربما هناك الزواج، مهر العروس و أحيانا اللقاء الحميم بين الزوجين، لكن هذا ليس هو إهتمام الرواية، دائما هنالك شيء آخر غير ذلك، لا يوجد أي تصوير دقيق للحب الآيروتيكي، ليس هنالك قُبل ولا مصافحة بالأيدي. بإختصار لا توجد هناك أي قصة حب كما نفهمها و نتخيلها نحن في الأدب الغربي، ولا حتى مفهوم العاشق الوحيد الذي يصاب بالهزال. الأدب الأفريقي ببساطة لم يكن لمثل هذه الأشياء.
الرومانسية الغربية قد تكون هي الثيمة الوحيدة التي تربك القارئ الافريقي، قد يجد صعوبة في فهم سبب غياب ثيمة الموت في بعض الأعمال الروائية الغربية ، أو من المرجح كليا ألا يفهم القارئ الأوروبي أهمية ثيمة الموت عندما يقرأ قطعة أدبية أفريقية، مثلا عند قراءة أ.ألفاريز، في كتابه الرائع “الإله المتوحش” يقول ربما أن نصف أدب العالم يدور حول الموت!
إن مجتمعنا قد عمل بشكل شاق لتحييد صدمة الموت، لذا من الممكن ببساطة لنا أن نغفل الإيحاءات العاطفية في الكتابات الأفريقية لحظة وقوع الموت، القصة القصيرة (البنت السوداء) لسمبيني أوسمان المشهورة أفضل مثال لذلك،حيث تدور القصة حول فتاة سنغالية إسمها ديووانا،التي تهاجر إلى فرنسا مع أسرة فرنسية كانت تعمل معها في السنغال، يبدأ أوسماني قصته بإقحامنا داخل أفكار ديووانا؛ بوصف غبطتها و إحساسها بالإثارة والفرح لتلك التجربة الفريدة:فرصة العيش في فرنسا! لكن بعد فترة قصيرة يتحول حلم ديووانا وفرحتها إلى كابوس،أعمال شاقة فوق طاقتها،عزلها من أصدقاءها الأفارقةومناداتها جارية من قبل أطفال العائلة الفرنسية. بعد عدة شهور،تنفذ ديووانا عملية إنتحار بقطع شرايين رسغها داخل حوض الإستحمام.
قد يفكر القارئ الأوروبي أن قصة أوسمان هي قصة ميلودرامية عن التحيز العرقي، التي هي جزء من التفسير بالطبع. لكن هي أيضا قصة تحكي عن العبودية والرق الحديث، بحيث تقود ظروف محددة شخص عاقل لإنهاء حياته، ببساطة كالرقيق الذين قفزوا من السفن ليواجهوا موتهم داخل المحيطات للفرار من العبودية في العالم الجديد، ديووانا أيضا أنهت حياتها للفرار من ظروف العبودية التي وجدت نفسها فيها. لكن هذا فقط جزء من القصة. فيما يتعلق بعملية الإنتحار؛ يعتبر واحدا من أكبر المحرمات في معظم المجتمعات الأفريقية! إستطاعت مؤقتا تحرير نفسها، عاقت أجدادها، كسرت دورة الحياة المقدسة، إن كانت هي الإبنة الوحيدة لعائلتها فقط أنهت الخط السلالي لعشيرتها. هي ببساطة إرتكبت إحدى المكروهات المقيتة، و وفقا للذائقة الأفريقية فإن الخاتمة لقصة أوسمان فظيعة بناء على ما اقترفته ديووانا في النص. لأن التركيبة الدينية مرتبطة بعبادة الأسلاف، وهذا غالبا ما لا يعيه القارئ الغربي.
(4)
مفهوم البطل، إعتقاد الشخص بأنه مختلفا من الآخرين، أيضا سمة غريبة كليا تقريبا عن الحياة الافريقية، البطل غير موجود تقريبا في الأدب الافريقي المعاصر، كذلك غير موجود في الأدب الغربي، لكن سليله – ضد البطل، الكائن المنعزل .. بالقوة تم إعتباره كبطل! هذا ليس صحيحا في الأدب الأفريقي، على الرغم من ذلك، التجربة والعاطفة الجماعية في غاية الأهمية: ما الذي حدث للقرية، العشيرة، القبيلة..الخ.
بدأت أتساءل،إن كان مجتمعين مختلفين بشكل هائل كالمجتمع الافريقي و المجتمع الغربي يستطيع كل واحد منهما قراءة أدب الآخر وفهمه بشكل عميق وكامل!
على الرغم من ذلك هذا ليس فقط هو السؤال الذي بدأت به. الأدب ليس محدودا لدرجة أن يكون هنالك فقط تأويل واحد له. لا يمكننا أن نكون أفارقة و غربيين،سود و قوقازيين. ماهو الأهم بالنسبة لي هو أننا كغربيين عندما نقرأ عملا أدبيا من أفريقيا سنكتشف أن تأويلنا للنص قد يكون بعيدا جدا ومختلفا عن المعنى الذي أراد الكاتب إيصاله، وعلى العكس من ذلك؛ ليس من حقنا أن نتوقع ردود أفعال مطابقة و مشابهة من شخص لا ينتمي لثقافتنا عندما يقرأ آدابنا.
لقد آن الوقت لتفادي إستخدام هذا المصطلح الإذدرائي “الكونية”، ما نعنيه حقا عندما نتحدث عن الكونية في الأدب إنما نقصد الإستجابات الثقافية التي شكلت تقاليدنا الغربية.
على الرغم من أن معظم الأمثلة التي أوردتها في هذا المقال أفريقية في الأصل، سأؤكد على نقطة أخيرة بأن التجارب الأدبية لغير الغربيين (الصينيين واليابانيين،كمثال) أيضا ستدعم هذه الفرضية، بحيث تبدو كلمة “كونية” محدودة جدا
بغض النظر إن كان سلبيا أو إيجابيا، فإن كل منا قد ولد في عالم بمركزية ثقافية غاية في الإحكام، لذلك الغرض الأساسي من أي قطعة أدبية ليس مهما في أي ثقافة أنتجت لتكشف لنا اشياء لم نكن واعين بها من قبل. فقط إعتبار الأدب هو جسر يربط بين الحياة التي عشناها والتي لم نعشها، والأدب هو الرحلة العظيمة للعالم السابق الذي لم نزره من قبل.
__________
*أستاذ الأدب و النقد بالجامعة الأمريكية /واشنطن