أولاً: الإطار العام للكتاب وأهدافه
يُعد هذا الكتاب موسوعة تحليلية شاملة لقضية دارفور، يجمع بين السرد الموضوعي والتوثيق العلمي الدقيق. يسعى المؤلف إلى كشف الجذور التاريخية والسياسية للصراع، مع تفنيد الروايات الرسمية السائدة. تميزه يكمن في:
– المنهجية العلمية: اعتماد على ٢٩ ملحقاً وأكثر من ١٠٠ مرجع موثَّق، مع تقديم براهين دامغة وأسانيد قوية .
– العمق التحليلي: ربط الصراع بتسلسل تاريخي متكامل، من مملكة الفور العظيمة حتى التطورات الحديثة.
– الجرأة النقدية: كشف حقائق “مجهولة حتى لأبناء دارفور أنفسهم”، وفقاً للكتاب .
ثانياً: الهيكل التحليلي للكتاب (الفصول الأربعة الرئيسية)
الفصل الأول: الجذور التاريخية والهويات المتنازعة
– تاريخ ما قبل الاستعمار: تحليل نشوء سلطنة دارفور قبل تشكُّل السودان الحديث، ودورها كحضارة إفريقية مستقلة.
– التدخلات الخارجية: نقد تأثير الحكم التركي-المصري (1821-1885) والثورة المهدية، ووصفها بـ”الوجه القديم للاستعمار” الذي زرع بذور التفرقة .
– الثنائية الدينية-الإثنية: دراسة تأثير اختفاء المسيحية وبروز “العروبة والإسلام” كأيديولوجيا مهيمنة خلقت انقسامات هوياتية.
الفصل الثاني: جغرافيا الصراع وعنف النظام
– دور نظام الإنقاذ: توثيق كيف حوَّل النظام السوداني (1989-2019) دارفور إلى ساحة قمع ممنهج، مُستخدماً “التسليح القبلي” لتفجير النزاعات .
– الكارثة الإنسانية: إحصاءات دقيقة عن القتلى والجرحى والنازحين، مع إبراز معاناة قبيلة المساليت كـ”الأكثر تضرراً” في غرب دارفور .
– تواطؤ النخب: إدانة دور “أبناء الإقليم المنتمين للإسلام السياسي” في تغذية الاحتراب الداخلي.
الفصل الثالث: إخفاق اتفاقيات السلام والتدخلات الإقليمية
– اتفاقية “أبو جا” (2006): تحليل نواقصها الدستورية، ووصفها بأنها لم تُلامس جوهر الأزمة.
– التدخل القطري: نقد “الحل العربي” الذي قادته قطر، واتهامه بممارسة “الشذوذ السياسي” عبر دعم حركات مثل “العدل والمساواة” الساعية للسلطة في الخرطوم .
– فشل الجامعة العربية: كشف كيف استخدمت حكومة الخرطوم الجامعة “لشراء الوقت” وتكريس المعاناة.
الفصل الرابع: دارفور في العهد الانتقالي (2019-2023) وتجدد المأساة
– صعود قوات الدعم السريع: فضح المسؤولية المباشرة لنظام الإنقاذ في تكوين “الجنجويد”، وتحولها إلى ميليشيا مارست “التحرش الوحشي” بالنازحين والعاملين الإغاثيين .
– اتفاقية جوبا للسلام (2020): وصفها بـ”حصاد الهشيم” بسبب إفراغها من المضمون، وتسببها في استقطاب اجتماعي حاد .
– جرائم حقوق الإنسان: توثيق مذابح “كريندنق” و”كرينك”، والعنف الجنسي ضد النساء كأدوات قمع ممنهجة .
ثالثاً: الإسهامات الفكرية والمنهجية المتميزة
- نظرية “الصورة المقلوبة”: طرح المؤلف فكرة أن تاريخ السودان حُُرف لخدمة أيديولوجيات المركز (الخرطوم)، مما طمس دور دارفور كحاضنة للحضارة الإفريقية .
- الربط بين العوامل البنيوية: إثبات أن الصراع نتاج تراكمي لـ:
– تفكيك الهوية السودانية المتعددة.
– سياسات التهميش الاقتصادي.
– توظيف الاختلافات الإثنية والدينية.
- تفكيك خطاب الضحايا والجلادين: إبراز أن نظام الإنقاذ استخدم “القمع الإثني” كأداة لتحويل دارفور إلى “مختبر عنف“.
رابعاً: تقييم نقدي للكتاب
– القوة:
– التوثيق الشامل: عرض البراهين عبر ملاحق ومراجع غزيرة، مما يجعله مرجعاً أكاديمياً لا غنى عنه.
– السبك المحكم: ربط الفصول بأسلوب سلس يسمح بقراءة متواصلة دون إحساس بالانقطاع .
– القيد الأساسي:
– تركيزه على دور النظام السوداني قد يُقلل من تحليل العوامل الدولية المعقدة (مثل الصراع على الموارد).
خامساً: الخلاصة والأهمية الاستثنائية
يقدم الدكتور شركيان عملاً يُعيد كتابة تاريخ دارفور من منظور ضحاياها، ويكشف أن الصراع ليس “حرب قبائل” بل تمرد سياسي ضد قمع منهجي. الكتاب ليس سجلاً تاريخياً فحسب، بل وثيقة إدانة أخلاقية لتجاهل المجتمع الدولي، وتحذير من أن “الوحدة الوطنية” في السودان مستحيلة دون تصحيح “الصورة المقلوبة” . يُوصف بأنه “إضافة نوعية للمكتبة السودانية” ومرشد لا بديل له لفهم دارفور كرمز للذاكرة المنسية والعدالة المؤجلة.