مقدمة في علم الكلام الجديد – أ. د. عبدالجبار الرفاعي

نوفمبر 23, 20240

مقدمة في علم الكلام الجديد – أ. د. عبدالجبار الرفاعي

تجديد الدين يبدأ بتجديد علم الكلام 

 

الدينُ لا يموت ما يموت هو الصورُ المتوحشة العنيفة لله التي صنعها الإنسان ، ما يموت هو كلُّ شيء يصنعه الإنسان و يضع الدينَ في مواجهة الاحتياجات الأساسية للروح والقلب والعواطف والضمير والجسد والعقل ، اللهُ حيٌّ لا يموت ما يموت هو ما يصنعه الإنسانُ من صورٍ لله يستعملها في خدمة مصالحه و احتياجاته، للاستحواذ على المال والثروة والسلطة بإسم الله.

تجديد الدين يبدأ بتجديد علم الكلام ، أية بداية للتجديد في الإسلام لا تبدأ بعلم الكلام ومسلّماته المنطقية والفلسفية، فإنها تقفز إلى النتائج من دون المرور بالمقدّمات ، تجديد الفقه مثلًا يبتني على تجديد علم الكلام؛ ذلك أن قبليات ومسبقات أصول الفقه، الذي يبتني عليه الاستنباط الفقهي، ليست سوى مسلّمات ومقولات لاهوتية حقلها هو علم الكلام و مما لا شك فيه أنه لا يمكن تخطي القراءة السلفية المغلقة للنصوص، وإنتاج قراءة تواكب العصـر ما لم يعد النظر بالبنية التحتية العميقة لإنتاج تفسير النصوص، تتخطّى آليات النظر و الفهم المتوارثة.

تجديد علم الكلام يستوعب غربة الواقع بأزماته وةمشكلاته المزمنة و يتجاوز غربة التراث؛ ذلك أن التراث ينتمي إلى واقع مضـى، فالإصرار على استدعائه بتمامه يعني استدعاء ذلك الواقع و من ثم إلغاء عنصـرَي الزمان والمكان و نفي الصيرورة والتحوّل،ط والنزوع نحو سكونية لا تاريخيةو، يتكرّر فيها الماضي والحاضر والمستقبل، وتغدو عملية التقدم هروبًا ارتداديًّا إلى الوراء و توغلًا في الماضي ، واستئنافًا للأفكار و المواقف والنماذج التاريخية ذاتها و كأن الأموات في حياتنا أشدّ حياة من الأحياء و كأن حاضرنا و مستقبلنا يقبض عليه و يصنعه الأموات أكثر مما نقبض عليه ونصنعه نحن.

العقيدة حاضرة في التراث من خلال بشـر يفهمونها، وهم حين يفسّـرون الكتاب و السُّنة يكتسب فهمهم شيئًا من خصائص البشـر و نقصه و يلتبس وعيهم بما يكتنف حياتهم من البيئة المحيطة بهم و يتلون تفكيرهم بفضاء الزمان والمكان و المحيط الذي يتحركون فيه، فكيف يصحّ تمديد رؤيتهم ومفاهيمهم وكلماتهم إلى عصـرنا.

تتجلّى أهميةُ علم الكلام الجديد في التمييز بين الإلهي و البشـري، بين المقدّس وغير المقدّس، بين الدين ومعرفة البشـر للدين ، بين العقيدة وإدراك الإنسان لها بين الدين والتديّن، بين الدين والإيمان، بين حدود الوحي الإلهي والعقل البشـري، بين الكتاب الكريم وتفسيره ، بين الفقه وفتاوى الفقهاء والشـريعة الإلهية ، كذلك يكشف علم الكلام الجديد المجالات الخاصة لكلّ من المقدّس والدنيوي و يكشف أقنعة المقدّس، عندما يتدثر الدنيوي بهذه الأقنعة، فيغدو الدنيوي مقدّسًا، وتتسع تبعًا لذلك مجالات المقدّس، فلا يكفّ عن النفوذ والتمدّد والاحتواء، ليلتهم كلّ ما هو دنيوي فيحوّله مقدّسًا.

الأساسُ الذي تبنى عليه وتتفرع عنه الأركانُ العشرة التي وضعتها للكلام الجديد يتمثل في أن علمَ الكلام الجديد يُفسِّـر الوحي تفسيرًا ديناميكيًّا، بمعنى أنَّه لا يرى النبيَّ منفعلًا سلبيًّا حالة الوحي، كما يرى علمُ الكلام القديم الذي يفسـر تلقِّي النبي للوحي، و كأنه قناةٌ تمرّ من خلالها كلمةُ الله للناس، من دون أن يكون النبيُّ متفاعلًا معها ومتأثّرًا ومؤثِّرًا فيها . للوحي في الكلام الجديد بُعدان إلهيّ وبشـريّ، البشـري تعكسه شخصيةُ النبي والواقعُ الذي كان يعيش فيه، والإلهيّ يعكس صلة النبي بالله، كما شرحنا ذلك في كتابنا: “مقدمة في علم الكلام الجديد”.

ينشد علمُ الكلام الجديد أيضًا التعبير الجمالي عن الدين ، بوصفه ضرورة يفرضها إحياء رسالة الدين في عصـر يتفشّى قبح التعبير المتوحش عن الدين ، كذلك يعمل الكلامُ الجديد على تحرير النصوص الدينية من التفسير الفاشي، الذي لا يمحق جمال الدين ورحمته وسلامه فقط، بل تتوالد منه موجة مناهضة للدين تقوّضه من داخله . التديّن المتوحش لا يذهب إلى مكان إلا وقال له الإلحاد خذني معك.

إن مَنْ يتبنّى التفسير الفاشي للنصوص الدينية لا يتذوق شيئًا من جمال الله، وما يتجلّى به في العالَم من نور ، يبدأ بناء علم الكلام الجديد بالتحرر من كابوس الصورة المظلمة الكئيبة لله. الرؤية لله في الكلام القديم قلما تراه بوصفه نورًا ، الرؤية لله في الكلام الجديد تتمحور حول صورة الله بوصفها نورًا، كما صوّرها الله في القرآن الكريم. تراه نورًا بذاته: “نُورٌ عَلَىٰ نُورٍ” (النور 40، وتراه نورَ السموات والأرض: “اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ” (النور 40)، وترى نورَه يتجلى بكل شيء في الأرض: “وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا” (الزمر 69). وردت كلمة النور في القرآن بتوصيفات متنوعة، مثلًا بوصفها إشارة للهداية: “يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاءُ” (النور 35)، أو توصيفًا للكتاب: “قَدْ جَاءَكُم مِّنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ” (المائدة 15)، “وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُّبِينًا” (النساء 174)، أو توصيفًا للإنجيل:”وَقَفَّيْنَا عَلَىٰ آثَارِهِم بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الْإِنجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ (٤٦ المائدة)، أو بوصفها حالةَ لانشراح الصدر بالإسلام: “فَمَن شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَىٰ نُورٍ مِّن رَّبِّهِ” (الزمر 22).

 

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *