د. عمر القراي
(قَدْ جَاءَكُم مِّنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ) صدق الله العظيم
لم تغالبني الكلمات، ولم يتملكني الحزن الوجودي العميق، إلا مرات في حياتي، أرجو الله أن تكون هذه آخرها.. ولعل فقدي لأخي، وصديقي، الباقر العفيف مختار، قد كان عميقاً، لأنني منذ أن عرفته، في منتصف سبعينيات القرن الماضي، لم ننقطع عن بعضنا، وإن كنا في أماكن مختلفة، من هذا العالم الفسيح. رأيته أول ما رأيته، شاباً نحيلاً، كثيف الشعر، يرتدي قميصاً، وسروالاً، ويجلس على برش، يطبق، ويدبس، الكتيبات التي طبعت على “الرونيو” في بيت الاخوان الجمهوريين، بالحارة الرابعة بالثورة بأمدرمان. ثم عرفني به الأخ المرحوم بشير بكار، قائلاً (دا الباقر جانا في كلية التربية جمهوري جديد.. من الحوش في الجزيرة)!! في تلك المدرسة السلوكية الفريدة، مارس الباقر العبادة المجودة، والصيام والقيام، وحياة الكفاف، وخرج منها الى حملات الكتاب، ووفود الأقاليم، ونشاط الحركة في الجامعة، والعمل الذي لا يفتر في اصلاح النفس، والمجتمع. هناك بدأت عنده القيم الاصيلة، التي كونت شخصيته، التي عرف بها بين أهله، وشعبه، حتى آخر لحظات حياته.
تخرج الباقر من كلية التربية جامعة الخرطوم، وكان عضواً نشطاً في رابطة الفكر الجمهوري بالجامعة. وقد أسس مع الأخ بشير بكار، رحمهما الله، نشاطاً مكثفاً، جعل الكلية كلها، في فترة من الفترات، صديقة للفكرة. ثم عمل مساعد تدريس في جامعة الجزيرة، ومنها نال البعثة الى بريطانيا، حيث حصل على درجة الدكتوراة. ولكن الباقر لم يكن متعلماً عادياً، أو مثقفاً واسع الاطلاع فحسب، بل كان بطبيعته ثائراً، ووطنياً من الطراز الأول. كان كاتباً، ومتحدثاً، ومحاوراً لبقاً، متطلعاً للتجديد، حريصاً على قيم الديمقراطية، والمساواة، والعدالة، باذلاً كل ما يملك، في سبيل الاستنارة، والوعي، ومناهضاً شرساً للدكتاتورية، والعنصرية، والجهل، والتخلف.
بعد توقيع اتفاقية السلام الشامل في عام ٢٠٠٥م، عاد الباقر الى السودان، وأنشأ مركز الخاتم عدلان للاستنارة والتنمية البشرية، تخليداً لذكرى صديقة الخاتم عدلان، الذي كان قد توفى قبل ذلك. ولقد كان المركز عملاً ضخماً، أسهم بصورة كبيرة، في الحراك الاجتماعي والسياسي في السودان. حتى أصبح في سنوات قليلة، قبلة الاحرار والشرفاء، وأهم منظمة مجتمع مدني، على مستوى القطر. ولكن حكومة الاخوان المسلمين، التي كان كل نشاط المركز يركز على نقدها، وتعبئة الناس ضدها، نكصت عن اتفاقية السلام، وساقت الجنوب الى الانفصال، ورجعت أكثر قمعاً للشعب. فهاجمت المركز، وصادرت مكتبته، وادواته، وأوقفت نشاطه. ومع أن نشاطه عاد بعد ثورة ديسمبر العظيمة، إلا أن ممتلكاته لم ترد اليه. ثم أغلق مرة أخرى، بعد انقلاب البرهان في ٢٥ أكتوبر ٢٠٢١م، ولم يسمح له بالعمل، حتى أشعل الاخوان المسلمون الحرب، وقضوا على كل مظاهر المدنية والتحضر.
لقد تابعت الباقر، متابعة قريبة، في مرضه، خاصة في العامين الأخيرين. وزرته مرات في المستشفى، وفي البيت، بعد وقبل العمليات. ولقد كان شجاعاً شجاعة نادرة، وصابراً على الألم صبراً محيراً. كان يحكي تفاصيل، وتعقيدات مرضه، ومحاولات الأطباء، واخفاقاتهم، ثم يذكر مواطن الألم بدقة، وكأنه يتحدث عن معاناة شخص آخر. ولم يشغله المرض الخطير، عن الحوار حول هموم الوطن، ومشاكله، أو المحاولة لحضور اللقاءات السياسية، التي حرص على السفر إليها، بعد انضمامه الى “تقدم”، والعمل معها. لقد قاوم الباقر المرض ببسالة، ولم يخش الموت، الذي كان يتوقعه في كل لحظة، وحين بلغ الكتاب أجله، أسلم الروح في سلام، ومضى الى ربه، طاهر السيرة، وخيّر السريرة.
اللهم يا أرحم الراحمين، ها نحن نودع أخينا الباقر العفيف، ونستودعه عندك، وهو ينزل اليوم ضيفاً عليك، وأكرم بك من مضيف!! ونحن الذين نعرفه، نظنه قد كان رجلاً صالحاً، ونافعاً لأهله، ووطنه، ولا نزكيه عليك، وأنت أعلم به منا. اللهم نسألك أن تبدل سيئاته حسنات، وتنزله منازل المقربين، وتجمعه بإخوانه الصالحين، الذين أحبهم وأحبوه، وتجعل البركة في ذريته، وأهله أجمعين. وحار العزاء للجمهوريين والجمهوريات، ولزوجته الأستاذة حنان علي محمد، وابنته أمل، وابنه محمود، وجميع إخوانه، وأخواته، وقريبه الاخ شاذلي، وكل أهله بالحوش. وإنا لله وإنا اليه راجعون.