قراءة نقدية في سردية زوارق الموت للكاتب والروائي: عمر لي

مارس 4, 20250

 

 

تقديم: معتز محمد بشير

عمر لي … روائي أشبه بالكاتب المسرحي “فولفجانج باور”، الذي يهتم بالحياة المُحبطة، والتي تُصيب الإنسان بالملل، مما جعل وعيه يتضمن قضايا النقد تجاه المجتمع الاستهلاكي الرأسمالي والعولمي، الذي يُفسد حياتنا بأي أداة؛ هذا مع قدراته السردية العالية بتقديم تلك التصورات في شكل مخطوطات أدبية عالية الحس.

“زوارق الموت” مُنتَج يُبيِّن طرائق سرد الكاتب “عمر لي” في الكتابة واتجاهاته؛ حيث يمكن وصف “لي” بأنه من مرتادي نظرية الجمال والخيال الأدبي الخصب، الذي من شأنه أن يُعيد الوحدة الضائعة بين الإنسان والطبيعة، وصور الحنين إلى الغربة والتجوال، وحشد ضخم من الفلسفات والتصورات كلها، نجدها في مُنتَجه الأدبي الفائز بجائزة (ببلومانيا للنشر والتوزيع)، لعام 2023م، وهو متوسط الحجم يكمن في (158) صفحة.

كتابات تنادي بالقول: (تعالوا إلى داخل الحياة الإنسانية الثرية)، فالواجهة الواقعية لم تكن بعيدة في تناول الأمور من قِبل الأستاذ “لي”؛ لوعيه التام بماهيتها، وأنها انعكاس للحياة الحقيقية، تلك الواقعية السردية، هذا المفهوم الذي يُريد أن يعبر بالخيال المبدع، فالعالم المُصوّر في السردية لا يُعبِّر عن “لي” فقط، بل عن الإنسان بشكل عام، وهو ليس بعكس الحقائق القبيحة أو الجميلة، ولكن بقدر ما هو إمساك حقيقي بالجوهر الداخلي للمادة، عبر تلك اللغة الأنيقة والتوصيفات العالية في العمق، بالتالي يستطيع القارئ من خلال ذلك إذا استطاع الوصول مع الكاتب عن التخلي المباشر لانعكاس مشاعره ومواقفه لتفسير وفهم كيفية تلك التصاوير بالشكل الفني الذي يطرحه “لي”؛ إنها لحظة الوصول لحافَّة العطن والانغماس في الروح والحياة، كما أسميتها، وهي سمة صوفية أشار إليها الكاتب في نصوصه السردية داخل منتوجه.

احتوت السردية على (8) فصول، سأعمل على تقديم قراءة نقدية وتحليلية بشكل لا يُخِلّ بأحداثها وتصورات الكاتب الذي عمل على رصد الوقائع التاريخية والاجتماعية والثقافية والسياسية، من خلال طريقة سرد ممعنة في السهل الممتنع، والذي يتطلب تفككيها عمقًا ودقة.

ابتدر الكاتب سرديته بتفكير عالٍ للبطل، وهو يداعب أحلامه بالهجرة لبلاد الغرب الأوروبي، باستعارات أدبية عالية المستوى على غِرار (ذلك العاشق الجديد الذي حفظ طقوسًا أدبية ليسرق لُبّ عشيقته… إلخ)، وألفاظ تنمّ عن ربط قوي للنفس ما بين أحلام الغربة ومدى أهميتها والهيام بها لدى البعض كحالة بطل السردية، بالمقاربة مع علاقة الفرد بمحبوبه؛ ثم دلف الكاتب بتقديم البطل عبر شخوص أسرته وترتيبهم العمري بشكل أشبه بلعبة البازل، مما يجعل السردية حافلة بالتشويق بالألغاز والعمليات الرياضية، مع توضيح مكامن أعمالهم الحياتية والوضع الاجتماعي للأسرة.

ونجد التراكيب اللغوية الكثيفة في عملية التوصيف للأحداث بشكل فيه كثير من بلاغة الكناية، فلمسنا ذلك عبر مشهد التهويم الذي اجتاح البطل في سرحانه المعتمد على التفكير في السفر؛ حيث يستغرق منه ذلك وقتًا كثيرًا دونما انتباه للوقت أحيانًا، عبّر عنه الكاتب بعبارات جميلة مثل (نشوة وغيبوبة صوفيتين عميقتين … إلخ)، تظهر هذه النزعة الصوفية لدى الكاتب، أو أقلها الإلمام بها من خلال إحاطته بهذا النوع من التفلسف (الصوفي).

أيضًا من التعابير التي توقف القارئ لجزالتها اللغوية مثل: (فم البحر – نهم البحر)، (الحشيش الذي سوف يمتص أحزانهم …)، فالسردية بين الصفحة والأخرى لا تخلو من سلاسة اللغة والعبارة التي تجذب القارئ؛ حيث تظهر جماليات مخيلة الكاتب في التوصيف على غِرار وصفه للخياط الذي يحيك على مكنته وكأنه “بيتهوفن”، وأيضًا وصفه لبطل الرواية في حالة رجوعه للبيت واستلقائه سارحًا ومفكرًا في تدابير الأمور بـ(أجدني مضطجعًا على سرير التوأمين، أبعد كل فكرة سوداوية… إلخ).

الفلسفة الوجودية تظهر في استبدال [زوارق الموت] بـ[زوارق الحياة]، على لسان بطل السردية، مما جعل من الحبكة لا تقتصر على الأدب فقط، بل هي منفتحة على العديد من المعارف، هو ما يُظهر براعة الكاتب وثقافته العالية(يبدو أننا جميعًا مصابون بهلوسة الماضي، نريد أن نُلغي هذا الحاضر … إلخ)، عبارة أبانت أن البطل كغيره من طبيعة المجتمعات التقليدية البسيطة وحتى في كثير من الأمم، لا تُفضِّل المستقبل؛ لأنها تقتات على ماضيها؛ لخوفها من المستقبل الذي لا تعرف عنه شيئًا، لذا تظل تلك المجتمعات حبيسة الماضي تزهو به وتفاخر به كعامل للتماسك المجتمعي.

كانت الواقعية كفلسفة أيضًا حاضرة من خلال التوصيفات التي قدَّمها الكاتب، بتطرقه للأماكن والشخصيات، مما يجعل القارئ يستبطن بأن هذه السردية حقيقية مع بعض التعديلات في السيناريو، أو قد يكون الكاتب يحكي عن نفسه بتركيب شخصيات قريبة من واقعه الاجتماعي، وغيرها من مظاهر التخمين والاستبطان، وهذا يوضح ذكاء الكاتب في عدم جعل القارئ يقف على أرضية واحدة كشكل من أشكال التشويق، كما يحدث في بعض الأفلام بأن يجعل المخرج الفيلم ونهايته مفتوحين على كل الاحتمالات، مساحة متروكة للقارئ بذكاء أشبه لما ذكره الكاتب عن الفيلسوف “إسبينوزا” بأنه عميق لا يفهمه إلا العميقون. تقريبًا هذه المساحة جعلت من السردية عميقة على شبيه (السهل الممتنع)؛ فكانت عبارة عن مشاهد كتابية بارعة سطّرها “لي” في مقدرة على الوصف والتصوير الشبيه بالدراما (التراجيديا والميلودراما)، وهو ما يفتح آفاقًا لتحويل هذا المنتج لعمل سينمائي تلفزيوني بامتياز، فنجد بأن السردية ذكرت مناطق مثل (مسجد لايِين) – (مدرسة يُمْبُل الابتدائية) – (حي غَدَّايْ)، كمناطق حقيقية في الواقع.

من جهة أخرى، هناك نقد قدَّمه الكاتب في سرديته، للواقع الحداثي المادي الذي يسلب آدمية الإنسان وإنسانيته، وهو جزء من حركة المعرفة والنقد للحداثة، من باب (ما بعد الحداثة)، وذلك خلال اتجاهات الحداثة لقولبة الحياة بعيدًا عن المشاعر والأحاسيس، خصوصًا في الغرب الأوروبي؛ حيث هَيْكَلت المادة البشر كالآلات، وهي قيمة مختلفة عن الحياة في إفريقيا حيث لا زالت تُحافظ على الإرث الاجتماعي والأُسَر الممتدة، لذلك أشارت السردية إلى أن العديد من أبناء إفريقيا تحصل لهم عملية إنتاج داخل حقل الثقافة الأوروبية التي غلب عليها الطابع الحداثي المادي مما تجعلهم حين رجوعهم إلى ديارهم الأصلية شخصيات أخرى، وهي إشارة يودّ الكاتب إرسالها للمهاجرين الأفارقة بأنه لا ينبغي لهم فقدان قِيَمهم الإنسانية الأصيلة بالتماهي والذوبان في حضارات الآخرين.

ومن خلال تناول مفهوم الحرية، يتطرق الكاتب للتغييرات الاجتماعية التي حدثت في مجتمع البطل “بلال”، انطلاقًا من أن العديد من المفاهيم يتم فهمها بشكل خاطئ بناء على التغييرات التي تأتي من قفزة في المجتمعات مما يصطحب معها العديد من الخلل.

القصة أبانت عن معاناة البطل “بلال” في دراسته، ولذكائه الشديد، من ضعف بعض الأساتذة، وهو هنا يقول على لسان الكاتب، بأن عملية التدريس كثيرًا ما يتم اقتحامها مِن قِبَل أشخاص لا يملكون أدنى مقوماتها، فمهنة التعليم شرفُ عظيم ومسؤولية عظيمة؛ فهي (مهنة الأنبياء) كما تُوصَف، ويقف عندها تقدُّم الشعوب أو تأخُّرها، لهذا يجب إعداد مَن يودّ العمل “مُعلّمًا” على أكمل وجه؛ كنوع من المعالجات الاجتماعية التي لجأ إليها الكاتب من ضمن العديد من المعالجات والرؤى بجانب السرد (معالجات اقتصادية – سياسية – ثقافية، وغيرها).

كما أن الكاتب قدّم تصورات للمجتمعات التقليدية ليس في السنغال وحدها، وذلك من خلال فهم تلك المجتمعات لفلسفة القانون، يظهر ذلك في السرد بعد خروج “بلال” من السجن ونظرة المجتمع له، دون الإدراك بأن السجن بطبيعته كمؤسسة تجنح نحو الإصلاح، ولكن سواء كان الشخص السجين قد ندم على أفعاله السيئة التي أدخلته السجن أو زاد خطره ومعاداته للمجتمع، في الحالتين يكابد الخارجون من السجن كثيرًا من المصاعب خلال عملية الاندماج الاجتماعي من جديد؛ بسبب نظرة المجتمع لهم، والطريقة التي يتعاملون بها، وهو الطرح الذي يريد الكاتب أن يبرزه في عملية إصلاح لهذه المفاهيم تجاه السجناء الخارجين من السجن، بأنهم بشر، وجميعنا خطاؤون، وخيرنا هم التوابون.

من أبلغ التوصيفات التي رمى بها الكاتب في محاولة التوصيف للحياة التي يعيشها بطل سرديته “بلال”، وهو اقتباس تعبير (السيزيفية)؛ سيزيف والصخرة أو عن سؤال الحكمة من الحياة، من هذا المنطلق جاء الاهتمام الفلسفي للكاتب عند الحديث عن الأساطير بوصفها تعبيرًا صادقًا عن تَوْق الإنسان وأشواقه وحيرته في هذا العالم، هذا التعبير الذي ابتدعه الإنسان قبل أن تصله أي أفكار أخرى بما في ذلك الأفكار الدينية وقبل أن يهتدي إلى طرح تساؤلاته هذه في صيغة إشكالات فلسفية.

الفعل الاجتماعي كان ثريًّا، من خلال أحداث السردية التي تدور في مجتمع “بلال”، فيشير الكاتب إلى حادثة دخوله السجن، متطرقًا للفساد والظلم الذي يقتل أحدهم في السجن وهو بريء؛ لأن أهله ليسوا من أصحاب النفوذ، وأيضًا التفاوت في درجات السجن وغرفه بناءً على الجاه والسلطة، بالإضافة إلى الشخصيات التي صنعت مجدها وثرواتها على أكتاف الآخرين كحادثة الصحفي الذي سرق جهد “بلال”.

وهنالك في الزورق كذلك يستعرض الكاتب أبعادًا اجتماعية أخرى، في النسيج الاجتماعي حيث أدت قفزة الحداثة إلى الإخلال بالنظام الاجتماعي الثقافي والعرفي، فهروب ابنة الإمام في قارب الموت هربًا من اكتشاف حملها بدون عقد زواج شرعي، مع إلماح الكاتب لطبيعة ملابسها ذاكرًا (كانت الفتاة الأخرى ببنطلونها الضيق، وعباءتها الواسعة… إلخ) هو ملمح للتغيير في الشكل الثقافي للزي السنغالي المهندم، مما خلق حالة انفصام وتناقض بين اللباس الحديث المستعار المشار إليه بالبنطلون، مع القديم ألا وهو العباءة الواسعة، وهي حالة النقلة في المجتمعات الإفريقية، وجعلتهم في حالات كثيرة أشبه بالمسخ من خلال التقليد الأعمى والانبهار بكل ما هو قادم من الغرب.

السردية أبرزت أيضًا دور بعض المهن مثل التعليم والتدريس، وما لحق بها من تغيُّرات جعلت منها مهنًا مُهمَّشة، فقد كان المعلم هو أهم مهنة يجد الاحترام في كل بقاع السنغال، وحمل على أكتافه قيادة ثورات التحرير أمثال “ألمام مابا جاخو & الشيخ أحمد بامبا & الشيخ محمد لمين درامي”، حيث كانوا معلمين بالخلاوي. فكرة التغيير في الثقافة السنغالية لمهنة التعليم، طرحها الكاتب في السردية من خلال وجود بطل الرواية مع أستاذه في قارب الهروب نحو أرض أخرى؛ بسبب أن التعليم أضحى غير مُجْدٍ كوسيلة لكسب العيش أو حتى للاحترام.

كذلك وضح التغيير الطبقي الذي حدث للعديد من الطبقات في المجتمع؛ حيث احتوى الزورق على أفراد كانوا يومًا أغنياء، وضاقت بهم سبل العيش وكسدت تجارتهم، هو ما أراد الكاتب إيصاله بالتحولات في عملية الإحلال والإبدال لطبيعة الطبقة البرجوازية والمتغيرات التي حصلت في المجتمع والثقافة السنغالية.

من خلال أن الدين كمحدد أساسي في علاقات المجتمعات التقليدية، كان من هذه الزاوية والنقاش التاريخي في بداية تكوين الدولة السنغالية الحديثة بعد الاستعمار، هو التطرق لرجالات الدين (المتصوفة) في توحيد الشعوب السنغالية في الدفاع عن الأرض، مع جانب آخر أن الاستعمار نفسه استقل هذه الطبقة الصوفية أو بعض رجالات الدين بشكل عام في الاستيطان بإفريقيا عمومًا؛ وذلك لاعتبارية الدين كرأس مال تلك المجتمعات، هو أيضًا إثارة لنقاش حول دور الدين في المجتمعات ما بين مؤيد ومعارض، لذا هناك حلبة  أخرى للصراع طرحها الكاتب للنقاش باتفاق مع “فات” و”بلال”، لكي يُكوّن القارئ رأيًا جديدًا.

تروي الأسطورة اليونانية القديمة أن “أبولو” عندما شُغِفَ بحُبّ “كاسندرا”؛ ابنة الملك “بريام”، أسبغ عليها موهبة العلم بالغيب؛ وذلك في مقابل وعد منها أن تستسلم له، فلما أخلفت “كاسندرا” وعدها، توسل إليها “أبولو” أن تمنحه قُبلة واحدة؛ أمام توسلاته منحته ما اشتهى، عندئذ نفخ “أبولو” في فيها فأذهب منها القدرة على الإقناع؛ وعلى ذلك بقي التنبؤ بالمستقبل موهبة بين يديها؛ لكنها موهبة عقيمة لا تحمل الغير على التصديق ولا تثير في النفس أي حميمة؛ عندما عرج الكاتب نحو مشاعر “بلال” وأحاسيسه، تجاه تلك الفتاة التي اختارها قلبه “فات”، وهي خياره من ضمن العديد منهن؛ تذكرتُ حينها قصة الأسطورة اليونانية القديمة؛ لأن الكاتب خلق توصيفات حسية عالية، ألقت على السردية جانبًا حسيًّا ورومانسيًّا جميلًا، خلق به فاصلاً من الأحداث الاجتماعية والسياسية الجافة؛ حيث تُلخص هذه الجملة وجه المقارنة (… لم يمنعني الخجل من اكتشاف شفتيها العذراوين، ولولا أن شقيقتي قد دخلت عليَّ لتعيد إليَّ الجوائز لاكتشفت عوالم أنثوية أخرى ….) ما بين “كاسندرا” و”أبولو”، وما بين “فات” و”بلال”.

من واقع الحياة العاطفية لـ”بلال”، ودخول المرأة في السردية بشكل لافت، عمل الكاتب على تبيان دور المرأة في المجتمع من خلال الإشارة للسلطة الأبوية والعقلية الذكورية، وهنا الكاتب ترك الباب مواربًا للقارئ حول فلسفة (الفيمينيزم)، كحالة جدلية للنقاش حول مؤامرة تلك الفلسفة للمجتمع السنغالي والإفريقي! وهي حالة تُعلي من قيمة السردية بإشراك القارئ في القضايا التي ظلت محل نقاش كبير أينما وُجدت.

المفهوم التاريخي طغى في العديد من الصفحات، فنرى نقاش “فات” و”بلال”، حول حقبة الاستعمار الفرنسي، وهل ما فعله بعض الأجداد يعتبر براغماتية أو واقعية في التعامل مع الجيوش الفرنسية. كان السجال كأنه مناظرة، وكان لكلٍّ محاججته في طرح المنطق المقبول له. ونلاحظ هنا أيضًا أن الكاتب كان يقحم القارئ كطرف ثالث بين “فات” و”بلال”، بشكل عبقري؛ حيث يجد القارئ نفسه مجبرًا على الدخول في وجهات النظر المطروحة بينهما.

أبرز الكاتب بعض الشخصيات التي لها أثر في تاريخ السنغال أمثال “الحاج عمر الفوتي” و”الشيخ/ محمد الأمين درامي” و”الإمام/ مابا جاخو با”، هؤلاء يشكّلون حقبة مهمة في تاريخ السنغال النضالي ضد الاستعمار، مما أعطى السردية وجهًا آخر متعلقًا بمعرفة إضافية للتاريخ في بلد أسود التيرنجا؛ وفي ذات الممانعة والوعي بالحقوق استدل الكاتب بالفيلسوف والكاتب والمهندس “مالك بن نبي” في آرائه حول التخلف الذي عزاه إلى مستوى الأفكار، وليس إلى «الأشياء»، من أجل تطوير عالم جديد يعتمد بشكل متزايد على الأفكار وغيرها من المعايير الفكريَّة الأخرى، هذا بالإضافة لتصوراته في كتبه (شروط النهضة/ القابلية للاستعمار) التي تشير إلى الانعتاق من قيد المستعمر، وهو ما حملته السردية في مضمونها بالإشارة لتلك الزوارق ومسيرتها في التاريخ بداية من نقلها للعنصر البشري الزنجي طوعًا أو غصبًا؛ ويظهر ذلك في مخيلة الكاتب بذكره لعبارة: (أصبحت العنصرية تمثل الإطار الفكري لتحليلاتي، أصبت بفوبيا الغرب … إلخ).

السنغال مرت بحقبة كونية، وذلك من خلال جزيرة (غُوري)، تلك البقعة التي لن تُكفّر عن كل سوءات الإنسان من خلال ما شهدته من جرائم عنصرية بغيضة. الكاتب عبر شخصية “بلال” وحبيبته “فات”، اصطحبنا من خلال نقاشهما بكل سلاسة للدخول في أضابير ما حدث من فظاعات، بداية بمشوار الباص من سوق (بترسين)، ثم بالتاكسي بعده إلى ميناء (بور أوتونوم دو داكار)، مرورًا بأشهر تمثال (دمب وديبون) وهما يتعانقان؛ ثم المباني متعددة الطُّرُز؛ لكثرة مرور الغربيين بهذه الجزيرة؛ فهناك بيوت على الطراز البرتغالي والهولندي، وهناك ما هو على الطراز الفرنسي والإنجليزي، بالإضافة إلى الصبغة الهندسية المحلية، مما أكسب الجزيرة تعددًا أُمميًّا؛ هذا بخلاف البيوت المعروفة (ببيوت العبيد)، التي يُحتجز فيها الأفارقة بمختلف مشاربهم لنقلهم للجحيم الأوروبي، هذه البيوت نفسها مقسمة على العبيد وفق خضوعهم وتماهيهم مع الجلاد الأوروبي، وهو ما وصفه “مالكوم إكس” بعبيد المنازل وعبيد الحقول، وما تطرقت له السردية أيضًا.

من هنا تثير السردية مفهوم (الاستلاب الثقافي)، بمحاولة الكاتب لَفْت الانتباه بأن التقاطعات والمصالح لا تعني الذوبان والتماهي في ثقافة الغير، وخصوصًا أن ما حدث في إفريقيا يجب أن يخلق في الأفارقة قدرة التفريق بين التعامل مع الآخر والتماهي لدرجة الاستلاب الثقافي، وقد أبرز الكاتب ذلك من خلال نقده للمثقفين الأفارقة وذلك بالإشارة للمثقفين السنغاليين أمثال “مريام با” و”سنغور” الذي ذكره بعبارة (ويموت سنغور في باريس مخلفًا لورثته كل هذه الثروة، وتاركًا البلد في متاهة تدور… إلخ)؛ وهو اتجاه ليس ببعيد عن تصورات “غرامشي” عن المثقف العضوي يدعو له الكاتب.

مظاهر الرفض والتفريق واضحة في إحدى فصول السردية لمفهوم الاستلاب الثقافي، من خلال التطرق لدور المنظمات الغربية في طمس هُوية البلدان، والزّجّ بمفاهيم جديدة من باب التمدن الحديث؛ فعضّد هذا الرفض الكاتب بذكره لطبيعة الثقافات واللغات المحلية لمجتمعات السنغال كـ(الفولانية – الولوفية – الهوسا – السونيكية).

هذا الشق فيه توصيفات بارعة من الكاتب لتلك المرحلة بشكل سردي لم يَخْلُ من الحقائق التاريخية والسياسية، يمكن أن يجعلها دليلاً في معرفة خبايا التاريخ لتلك الفترة (للسنغال وعموم إفريقيا).

يواصل الكاتب سرده الجميل، والذي يجد القارئ صعوبة في التوقف عن القراءة، فلا بد من مواصلة مطالعة السردية؛ لما فيها من تشويق ومعلومات، فيواصل اصطحابنا في رحلة البطل “بلال”، والذي نجده قد غرق في (النوستالجيا)، والتي من خلالها يعمل على الحكي والتذكر في طريق رحلته إلى زوارق الموت، فيضخ مزيدًا من المعلومات.

وفي مواصلة لفلسفة الحديث عن الأساطير (الميثولوجيا)، قام الكاتب باستعراض الظاهرة الاجتماعية المعممة في قارة إفريقيا كنمط ثقافي، ألا وهي سطوة الكهنة والسحرة، وما يقدمونه للشعوب من تمائم يعلقونها على أجسادهم ويشربونها أو يدفنونها، كشكل من الحماية من الموت أو للتوفيق وجلب الحظ، أو لتدمير الخصوم بسحرهم أو تعطيلهم … الخ من أساليب مثيولوجيا السحر.

أما البعد الاجتماعي الثقافي، فهي الصورة الأخرى التي نقلها لنا الكاتب؛ في محاولة منه لتقديم السنغال عبر سرديته بأنها دولة تمتلك تاريخًا غنيًّا من الثقافة الإفريقية مع القليل من التأثير الفرنسي، لذا نجد في مقدمة هذه الصورة: حقبة الاستعمار وأشهر وجه لذلك هو جزيرة (غوري)، والتي تُعرف بباب اللاعودة، والشهيرة ببيوت العبيد آنذاك.

جزيرة (غُوري) تقع قبالة ساحل السنغال، وقد شكلت من القرن الخامس عشر ولغاية القرن التاسع عشر المركز التجاري الأكبر لتجارة العبيد في الساحل الإفريقي، وقد خضعت على التوالي لسيطرة البرتغال وهولندا وإنجلترا وفرنسا، ما جعل هندستها تتميز بالتناقض بين أحياء العبيد المظلمة ومنازل تجار الرقيق الأنيقة، ولا تزال جزيرة غوري تُجسِّد حتى اليوم رمزًا للاستغلال البشري، وموطنًا للمصالحة ففي عام (1978م) أُعلنت منظمة اليونسكو أنها اختارت الجزيرة لتكون من مواقع التراث العالمي.

شكَّلت هذه الجزئية بُعدًا ثقافيًّا ضخمًا لتعاقب الدول عليها، مما عاد بأثره على السنغال وشعبها من خلال الجانب الاجتماعي والثقافي، وهي رؤية ثاقبة وذكية من الكاتب أن ينقل القارئ للغوص في أعماق السنغال عبر ثقافته، بإيلاج السرد القصصي مع التفاصيل الثقافية الحقيقية التي جسَّدها في الحياة اليومية للشاب “بلال” بطل الرواية؛ إذ يمكن من هنا أن تضاف هذه السردية من باب الكتب التثقيفية بجمهورية السنغال بشكل مختلف.

من المظاهر الثقافية الأخرى للسردية، والتي يعمل الكاتب فيها على تقديم السنغال لتعريف القارئ بها، هو المعلم المهم جدًّا في حياة السنغاليين “الشيخ أنتا ديوب” الكاتب والمؤرخ والسياسي، الذي له إسهامات موسوعية في الفلسفة، والرياضيات، والأنثروبولوجيا، وأبحاث المصريات؛ حيث مثَّل دور القارة الإفريقية وإسهام أممها السوداء في الحضارة العالمية وبُعدها المركزي في أعماله، مقاومًا للنظريات المتحيزة إلى المركزية الأوروبية، فألهمت آراؤه مفكرين وناشطين في مسألة الوحدة الإفريقية، ومن منطلق التفكير النقدي الإفريقي للكاتب هو الإيتاء بنموذج بـ”ديوب”، مدعمًا فكرته التي عمل عليها “الشيخ”، ألا وهي إعادة الاعتبار لحضارات الشعوب السوداء، لذا كرَّمته السنغال بتحويل جامعة داكار إلى اسمه، لهذا تطرَّق الكاتب لهذه الجامعة، بأنها أحد أحلام “بلال” بالدخول إليها.

(زوارق الموت) أظهرت مدى ثراء الحياة السنغالية بالأدباء والمفكرين، فهنالك الروائية الكاتبة “آمنة صو فال”، والشاعر والسياسي “ليوبولد سيدار سنغور”، والمفكر التاريخي الأنثروبولوجي “شيخ أنت جوب”، الذين لهم إسهامات كبيرة أثَّرت على الساحة الثقافية العالمية.

السردية لم تنغلق على الأراضي السنغالية فقط، فقد شملت العديد من القضايا الإفريقية وتجاوزتها لدول عديدة، فأضحت أُممية، وهو بُعْد آخر يطوي في جنباته الرؤية الإنسانية للكاتب، الذي يتمتع بوعي وأفق مختلف؛ في محاولاته الدؤوبة لتذويب الهموم والبؤس، مما جعل هذه السردية وكأنها جزء أصيل من حركة النزعة الإنسانية (Humanismus)، وذلك من خلال الجنسيات التي احتوتها قوارب الموت، بإشارة لوحدة المصير المشترك من قضايا تكاد تكون متطابقة باختلاف الأعمار والجنسيات، وهو ما يكاد يطابق التاريخ في نقل العديد من البشر من إفريقيا باختلاف جنسياتهم، السردية هنا تحاول استعاضة ذلك المشهد القديم بالإشارة إلى أن قوارب الموت الحديثة لا تختلف كثيرًا عن سفن جلب الرقيق القديمة من السودان الفرنسي والإنجليزي وعموم إفريقيا.

من خلال رحلة “بلال” بعد ركوبه البحر، يقدم لنا الكاتب دليلاً كاملاً لطريقة العيش خلال هذه الرحلة، من سلوكيات وطرق تعامل بين الركاب والعقليات التي تنشأ، وتكون محددة ومرسومة مسبقًا لأدوارها في طرائق الأكل والأولويات؛ كما يبرز لنا هنا الكاتب في السردية بُعدًا آخر، ألا وهو البعد الاقتصادي ومفهوم الطبقات.

المادة الفكرية التثقيفية لهذه السردية بالشكل المقدم من الكاتب تبرز من خلال كتاباته التي يعكسها مُنْتَجه (زوارق الموت)، وفيه تظهر طرائقه في الكتابة واتجاهاتها؛ وهنا يتطرق الكاتب إلى مفهوم الاقتصاد السياسي ومصطلح الطبقات، من خلال التقاسيم داخل المركب طبقة (برجوازية – متوسطة – بورليتاريا)، وذلك بالاستناد للمكانة الاجتماعية التي يحددها رأس المال دون اعتبارات للتعليم هنا؛ حيث تلعب الطبقات في المركب دورًا مهمًّا في سير الحياة بها، فصار قانون الطبقة داخل هذه المراكب هو العقد الاجتماعي والدستور المعتمد.

تتواصل الأحداث بشكلٍ شيّق مثير للهفة، بين كل فصل وفصل، مع ملاحظة الانتقال السلس للسرد بالطريقة التي يقدمها الكاتب دون أن يشعر القارئ بفجوة في القصة ما بين ذكريات “بلال” والواقع الذي يعيشه بالفعل.

وفي أحد فصول الرواية يتم بشكل كبير استعراض أحداث المركب التي تقلّ الفارين إلى أوروبا، وقصصهم التي يكون بعضها مُسلَّمًا به ومرسومًا مسبقًا طبقًا لنظام التهريب، ويروي أحداث أخرى يدور رحاها حول وقائع لحظية، فنجد مَن يهلكه المرض والعطش، وكيفية التعامل معه، وكذلك مَن يموت فيتم إلقاؤه دون تردد في البحر، فموت أحدهم يمثل حالة فرج بتوسيع لقمة العيش التي يتلقونها فتكبر قليلاً، ومكان أرحب بتخلي أحدهم عن مكانه بموته ورميه في البحر، والقصص والحكايات واجترار الذكريات، فيجري في القارب جميع ما هو متصل بجدلية الأمل واليأس، فتبرز حكايات مثيولوجيا الموت بين الركاب، ظنًّا منهم أن من ماتوا من خلال هذه الرحلة، يظلون يواصلون عملهم الروتيني، كحالة للتعايش مع أسوأ اللحظات المتوقعة، وفي جانب آخر يهيم البعض بتصوراتهم بأنه وصل مبتغى أحلامه بوصول البر الأوروبي، وهكذا تعيش المركب حملًا فوق حملها بما يحمله كل واحد من المهاجرين من أحلام وطموحات.

يمر الركاب في زوارق التهريب بالعديد من الإرهاصات والتخيلات التي بكثرة ما يتم تداولها كأنها أضحت حقيقة، على سبيل ما يتحدث عنه ركاب السفن والقوارب التي تمر على رحلات المهاجرين، فالبعض صورها على علاقة بالجن نتيجة لعدد الموتى الذين يرحلون ضحية الجوع والعطش، ويتم إلقاؤهم في البحر، والكثير من التأويلات الأخرى.

وكذلك طبيعة الأكل والشراب الذي يكون محصورًا على قطع البسكويت، وقليل من الحليب والماء على فترات متباعدة وبكميات قليلة، وأحيانًا يكون هناك حساء.

الوقائع التي قدّمتها السردية، هي أشبه بخارطة طريق للإدراك بفكرة الهجرة في هذه الزوارق؛ فقد قدّمت الكثير بل كل ما يتعلق بتفاصيل السفر عبر التهريب؛ حيث يمكن للأشخاص الذين يودون خوض تجربة زوارق الموت، أن يمتطوها بمعرفة تامة لكل مجاهل ما يحدث منذ اللحظات الأولى لانطلاق رحلة الإبحار، هذه زاوية تكاد تكون مختلفة في طبيعة السرديات التي تستعرض الواقع من أجل معالجته أو تشريحه، لهذا فإن هذه السردية تمتاز بعلو الكعب في تغطية كل المساحات غير المرئية لطبيعة الوقائع.

فكرة السفر عبر زوارق الموت يقف عمودها الفقري على عدة عوامل؛ بدايةً من اتخاذ القرار وتوفر المال، والتشبث بالأمل، وفي الغالب يكون هذا هو العامل الحاسم؛ لأن الوصول للبر لا يخضع في الغالب لمعايير منطقية، من خلال الرحلة التي تمر بكثير من المنعطفات، من تشكيلة الركاب، والأوضاع الأمنية والأحوال الطبيعية… إلخ من مستلزمات هذه الرحلة.

تتلخص سردية (زوارق الموت)، في عبارة (البرسا أو البرزخ)، تثبيتًا للمغامرين في رحلتهم التي يملأها اليأس والأمل؛ حيث تستجيب الحياة للروح، فالرحلة نفسها هي شكل من أشكال المقاومة، أمل مخلوط بالإحباط، وقد يلاحظ القارئ دقة الكاتب في نقل مدى الآلام والمعاناة التي تجتاح الشخص الذي يقوم بهذه الرحلة، بالإضافة للجو المحيط حوله؛ حيث نقل لنا إحساس والدة “بلال” وحسرة فقدانها المسبق لأولادها الذين ذهبوا في زوارق الموت ولم يُعرَف لهم أثر، وهو نقل بإحساس عالٍ، أشبه بخيار الاستقرار في الواقع للإنسان القلق الذي عبر عنه “نيتشه”، لذا يلجأ العديد لقوارب الموت بخاصية هذا القلق وهاجس الاستقرار الجيد، الذي يرسمونه عن الغرب موطن للسعادة.

إنّ الاستقرار في الأساس موقف فلسفي/ وجودي/ أخلاقي، عبَّرت عنه الفلسفة المعاصرة على أنه إشارة لحالة التوازن؛ لأنّ جوهر الوجود ما هو إلّا حالة ما بين الإيجابية والسلبيّة، تستمرّ لفترة محدّدة وتنتهي بالموت حتمًا، لذا يظل هاجس الاستقرار بمفاهيمه المتعددة همّ الإنسان الأول؛ وفكرة زوارق الموت تُعلِّم الإنسان طريقة استيعاب جوهر العلاقات، فليس ثمة تناقض بين مشاهدة المادة الواقعية، وخلق النموذج الخيالي في مخيلة الإنسان كما هو موجود بالرواية؛ فالكاتب عمل على تقريب الهوة بشكل ممتاز في التوصيف ونقل القارئ بشكل دقيق، فكانت السردية أقرب لتيار الواقعية الأدبية.

ساعدتني سردية [زوارق الموت] على رؤية وفهم الإنسان والإحساس به، كأبسط حالة لوجودي الماثل في هذه الحياة، وذكرتني قصة الخباز “سبستيان” الذي تعرفنا عليه من خلال مقر عمله؛ من حيث وجهة نظر كاتبه، فهو ليس مثالاً ماديًّا كإنسان يكسب قُوته من عمله المتواضع فقط، بل كان كأنه يعين على الحياة، فلا يمكن أن يعيش بدونه المئات والآلاف من الناس، هكذا هي أدوارنا كبشر، فهل قدّمنا لغيرنا ما يحتاج إليه؟

السردية كانت كالغاية التي تُشكّل ضوء الشبيه بدور الخباز “سبستيان”؛ بفتحها لنافذة أحداث تلك القوارب، وطرحها من عدة زوايا وأبعاد (تاريخية/ سياسية/ اجتماعية/ ثقافية/ فكرية/ فلسفية/ إنسانية … وهلم جرا)، وذلك باعتبارها سؤالاً عن ماهية الانتماء، وشعور الفرد بالبحث عن موطن يحتويه ويشعر فيه بآدميته، وكذا باعتبارها مزيجًا من حاجاتنا ومَلكات الروح في تلبية الشغف والتغيير.

إننا نشهد في هذا العالم متعدد الجوانب بتناقضاته وتعقيداته على الذات، من جمال وقبح، ونرى السعادة والأحزان، وينقسم الإنسان إلى خير وشر، لذا ينبغي في خضمّ كل هذا أن نعرض على أنفسنا رؤية صحيحة لكل تلك القِيَم المرتبطة بالأخلاق الفاضلة، لتسمو بنا لإعلاء القِيَم الإنسانية بين الشعوب.

المصدر: قراءات إفريقية

 

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *